تهنئة الكفار بأعيادهم نظرة جديدة في مسألة قديمة

 

 

-1-

 

انتشرت الحمّى المعهودة في مثل هذا الوقت من كل عام، فخطب الخطباء في الجوامع وكتب الكتّاب في الجرائد وغرّد المغردون وفَسْبَكَ المُفَسْبكون في العالم الافتراضي، وكلهم يحذّر من تلك الجناية الفظيعة على الدين: تهنئة الكفار بعيدهم في رأس السنة الميلادية الجديدة.

 

في الوقت نفسه نصب فريق من المسلمين في بيوتهم شجرات عيد الميلاد فزيّنوها كما يزين النصارى شجراتهم ومارسوا الطقوس ذاتها حتى ليظنّ الظانّون أنهم من أتباع المسيح، ولن يلبثوا أن "يُحْيوا" ليلةَ رأس السنة الميلادية في احتفالات أكثرُها حافل بالمعاصي وأقلُّ القليل منها هو الخالي من الموبقات.

 

وكما يحصل دائماً، بقي في الوسط فريق من الناس لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ينظرون مشدوهين إلى قوم منهم وما هم منهم، ضاعت هُويّتهم وذابت في هوية غيرهم من أهالي المِلَل والأديان والثقافات، وصار عيد النصارى عيداً لهم وكأنهم لم يُشرَع لهم عيد، وينظرون حَيارى إلى قوم آخرين جعلوا كلمةَ مجاملةٍ يقولها جارٌ لجاره في المسكن أو زميلٌ لزميله في العمل -من غير المسلمين- جنايةً كبرى على الدين! فهل هي فعلاً جناية على الدين وكبيرة من الكبائر فتستحق كل هذا الضجيج؟

 

-2-

 

تتكون هذه المسألة من جزأين مستقلين، وقد جمعهما غالبية المُفتين معاً وأصدروا عليهما حكماً واحداً، حيث استثمروا القطع بحرمة أحد الجزأين للحكم على الآخر بالتحريم. الجزء الأول هو احتفال المسلمين بأعياد غير المسلمين، سواء بمشاركتهم فيها في محافلهم وبيوتهم أو بتقليدها في بيوت المسلمين، وهذا العمل داخلٌ في عموم التشبّه بالكفار، وحكمه التحريم، فلا حاجة لتضييع الوقت والاستفاضة فيه.

 

الجزء الثاني من المسألة هو تهنئة الكافر بعيده دون المشاركة فيه، وقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريمه لأنهم رأوا فيه تعظيماً للدين الباطل واعترافاً ضمنياً بصوابه، بمعنى أنهم وصلوا إلى التحريم اعتماداً على منهجية مَقاصدية لا على نصوص قطعية الدلالة والثبوت. وأنا أتمنى من علمائنا الكرام اليوم إعادة بحث هذه المسألة بحثاً جديداً مَقاصدياً، تماماً كما بحثها الأولون بحثاً مقاصدياً، بما يحقق مصلحة الدعوة والدين.

 

-3-

 

إنّ الحكم في هذه المسألة لا يمكن أن يتجرد من مقاصدها، فإذا كان في المنع إحسان إلى الدين فامنعوه مطلقاً، وإذا كانت فيه إساءة إليه ففيمَ المنع؟ كيف نُفتي بما يضرّ الدين ولا يفيد؟

 

إنني أتخيل حال مَن يقيم في الغرب من المسلمين وله جيران من النصارى: أيكون خيراً للإسلام أن يجاملهم ويتلطّف معهم ويهنئهم بمناسبتهم التي يتوقعون تهنئته لهم فيها، أم الأفضل أن يتعالى عليهم بإسلامه ويجفوَهم ويتجاهل تلك المناسبات؟ أمّا أنا فلا أتردد في الجواب: لو كنت واحداً من المهاجرين في تلك الديار لوزّعت على جيراني البسمات والتهنئات في مثل هذا المقام حِسبةً لله تعالى ودعوةً إلى الإسلام.

 

في هذا الزمان يعيش ويعمل في بلاد الكفار عشرات الملايين من المسلمين، ويعيش ويعمل في بلاد المسلمين عشرات الملايين من غير المسلمين، وأحسب أننا لو نظرنا إلى هذه المسألة نظرة مَقاصدية واستثمرنا فرصة التقاء المسلمين بغير المسلمين فوزعنا عليهم البسمات والتحيّات والتهنئات في كل المناسبات، لو أننا صنعنا ذلك فكأننا وزعنا عشرات الملايين من بطاقات الدعوة إلى الإسلام.

 

-4-

 

الذين ذهبوا إلى التحريم الصارم اعتبروا تهنئة الكفار بأعيادهم من مسائل الاعتقاد المتصلة بعقيدة الولاء والبراء، فهل هي فعلاً كذلك؟ الجواب يعرفه كل واحد من سؤاله لنفسه، لأن الولاء والبراء حالة قلبية خالصة: إذا هنأت جارك النصراني بعيده فهل ينصرف تفكيرك إلى أن دينه خيرٌ من دينك؟ أو أنه يتبع ديناً صحيحاً معظّماً يستحق الاحتفال؟ أو هل تشعر أن النصراني الذي تهنئه أقرب إليك من إخوانك المسلمين؟ وهل ينشأ في نفسه هو أيُّ تصور من هذا النوع لمجرد سماعه تهنئةً منك بهذه المناسبة؟

 

أحسب أننا لو سألنا ملايين المسلمين فسوف نصل إلى نتيجة واحدة: لن نجد في قلوبهم أي أثر لهذه المجاملة العابرة بكلمات تخرج من طرف اللسان لا من أعماق القلب، وسوف يبقى المسلمُ بعدما قال تلك الكلمات كما كان قبلَها، على الدرجة نفسها من سلامة العقيدة وقوة اليقين والبراء من الباطل، بل ربما ازداد يقيناً وإيماناً بالحق الذي هداه الله إليه وهو يفكر في حال أولئك المساكين الذين ضيّعوا الحق وضلّوا الطريق.

 

وهل يُعقل أن يكون المسلم مهزوز الثقة بدينه حتى تفتنَه كلمةُ مجاملة عابرة وتُضعف شعوره بالانتماء إلى دينه وأمّته؟ لقد عرفت كثيرين ممّن اختاروا تألّفَ غير المسلمين بتهنئتهم في أعيادهم (وأنا منهم) فوجدتهم يملكون إيماناً راسخاً ورغبة مخلصة في هداية الناس، فيرجو الواحدُ منهم أن تكون بَسْمتُه وتحيّته وتهنئتُه وسائلَ في الدعوة إلى الإسلام.

 

-5-

 

سوف يخالفني كثيرون بلا ريب ويختارون التحريم الذي ذهب إليه جمهور أهل العلم، ولا بأس، فإنها مخالفة سائغة أحترمها وأفهم سببها، ولكني أعترض على تضخيم المسألة ومنحها أهميةً هائلة لا تناسب حجمها. مهما يكن حكم تهنئة الكافر بعيده فإن هذه المسألة ليست من الأصول ولا يصحّ أن يصوّرها بعضُ الناس وكأنها من مسائل الاعتقاد الكبرى، وإذن فإنني أستكبر أن تثار بشأنها تلك العواصف والأعاصير الصاخبة كل عام.

 

إن غاية ما أتمناه -ولو بقي الخلاف- هو أن يوضَع كل أمر في موضعه وأن يُمنَح من الاهتمام ما يوافق حجمَه الحقيقي فحسب، فإذا كانت الدنيا تقوم وتقعد من أجل كلمةِ مجاملة يقولها المسلم لغير المسلم فماذا ينبغي أن يكون موقفنا من انتشار الربا في بلدان المسلمين، الربا الذي أعلن الله من عليائه الحربَ على أصحابه فقال: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله}؟ لو استحق موضوعٌ بحجم تهنئة الكفار بأعيادهم هجوماً بمدفعية المَيدان فإن الربا يستحق هجوماً بالقنبلة الذرية، ولكني أرى السلاح النووي يخرج من الثكنات والمخازن في هذا الوقت من كل عام، ولا يكاد أحدٌ يطلق على الربا قذيفةَ هاون واحدة في السنوات الطوال! أترون هذا إنصافاً في دين الله؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين