تناول الدين بين الجد والهزل

 

بين الإنسان العربي اليوم والإنسان العربي في صدر الإسلام بون بعيد.

قد يكون إنسان اليوم أفخر ملبساً وأدسم مطعماً، وأفره مركباً ولكنه من حيث الخصائص الروحية والعقلية تافه ضائع بالنسبة إلى أبيه الأول وسلفه العظيم...

لقد ظهر العرب منذ بدأ الإسلام تاريخهم أمة تقود ولا تقاد، وتدفع ولا تندفع، و تمنح الآخرين المعرفة والخلق والقانون والحضارة لأن ثروتها في هذه الميادين هائلة، وحاجة الغير ماسة، والرغبة في العطاء موفورة!

أما عرب اليوم فيدهم ممدودة ترتقب العون المادي أو الأدبي ممن يعطي إذا شاء أو يأبى إذا شاء، وقد يتلقون اللطمة تلو اللطمة فما يستطيعون لفر هوانهم أن يرفضوا ضيماً أو يدركوا ثأراً...

إن الفروق بين الإنسان العربي اليوم والإنسان العربي أمس جسيمة لأن إنسان الأمس كان صاحب إيمان عميق، وخلق عظيم، وقدرة على الحياة خارقة، وهمة في اجتياح العوائق فائقة.

أما الإنسان اليوم فعريان عن هذه الخصائص المعنوية ونحن نبذل جهوداً جبارة كي نطوي المسافة بين حاضره وماضيه، كي نعيده إلى الدين الذي صنع أمجاده وجعل له في الدنيا دوياً كبيراً ولم يكن قبله شيئاً مذكوراً...

والناس قد يأخذون الدين شكلاً لا موضوع له وصورة لا روح فيها، وهذا اللون من التديِّن قد يكون أسوأ من الإلحاد المكشوف، لأن التديِّن المصحوب بالضعف والبلادة أو بالذهول والغفلة تديِّن لا وزن له عند الله، ولا أثر له بين الناس.

وعندما حالو بنو إسرائيل قديماً أن يأخذوا الدين بهذه الطريقة السمجة هددهم الله جل شأنه بالسحق أو يأخذوا الدين أخذاً معقولاً...

أجل لقد انتزع جبلاً من مكانه وهددهم بالدفن تحت ركامه إذا كانوا سيتناولون تعاليم الدين بعزيمة خائرة وفكرة غامضة.

قال تعالى :[وَإِذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {الأعراف:171}.

وأخذ الوحي الإلهي بحماس باطنه وظاهره واستبصار ما فيه على نحو ينفي الغفلة والنسيان، أمران لابدَّ منهما للتدين الحقيقي...

والأمة التي تنظر إلى معالم وحيها ببرود وقلة اكتراث، أو التي تغلبها أهواؤها فتنسى ما كلفت به وتمضي وفق هواها لا وفق هداها أمة ليست أمينة على رسالات الله ولا جديرة برعايته.

وقد حكى القرآن لنا ما هدد الله به قديماً بني إسرائيل حتى نعرف سراً من أسرار سخطه على الأمم.

وعندما أطيل النظر في أحوال العرب اليوم أجد علل تأخرهم ظاهرة لأن انتماءهم إلى الإسلام قشرة رقيقة على كئود غليظ.

الناس يؤدون أعمالهم وكأنهم ممثلون لن يأخذوا أجراً فلا اتقان ولا إخلاص، ولا جد، ولا تضحية، أسلوب الأداء خلو من العاطفة الحارة بله العقيدة الدافعة...

التكاذب المستمر هو العملة المتبادلة والجهم للحقيقة أساس في السلوك العام، وسائق السيارة يجب أن يلقب بالمهندس والحلاق بالطبيب والساعي بالريس...

وجنون الرياء والظهور يفتك بالأفراد والأسر والطوائف، والغرائز الجنسية تقتحم السدود المفتعلة وتسلك آلاف الطرق المعوجة بعد أن هجرت الحلول الصحيحة لمشكلاتها.

وضعف الشخصية يستقدم فتوناً من تقليد المنتصرين في الشرق والغرب، ويجعل المجتمع العربي خليطاً من المضحكات المبكيات يندى له الجبين.

إن الإسلام عنوان غير صحيح للأمة الإسلامية المترامية الأطراف وللأمة العربية التي تتولى بحكم لغتها مكان القيادة لجماهير المسلمين.

وقد نجح الاستعمار الأجنبي في:

1 ـ ألا نأخذ ما أوتينا بقوة.

2 ـ وألا نذكر ما فيه.

ومن هنا استطاع أن يصرفنا عن لباب ديننا، وأن يسلبنا بالقشور الفارغة، وأن يدفعنا على مر الأيام إلى الخلاص منه ثم الارتداد النهائي عنه.

وأخطر ما بلغه إيجاد مجتمعات خالية من فضائل العقيدة وروابطها، والويل لأمة تمارس شئونها المختلفة وأمرها فرط وقلبها  خرب وعقلها هواء.

وربما كانت سنة الله في الأولين تخويفهم بالخوارق حتى يرعووا ورفع الجبال فوق رؤوسهم كي يزعجهم فيستقيموا.

ولكن الله تعالى لم يرفع جبال البرانس فوق عرب الأندلس حتى يدعوا مجونهم وفجورهم، فإنه ترك بين المسلمين كتاباً يقول لهم: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ] {النساء:123}. فلا جرم أن يطردوا من ديار لم يحسنوا الخلافة عن الله ورسوله فيها.

إن القرآن كتاب صارم الحكم على أبنائه وأعدائه جميعاُ، وعندما زعم أهل الكتاب السابقون أن الجنة حكراً لهم مهما كانت أعمالهم كذب الله هذه الأوهام وكشف أنه لا يستحق كرامته إلا من اتجه إليه بالعمل الحسن:[وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {البقرة:112} .

فإذا كان العرب لا يولون وجوههم شطر دينهم ولا يتحرون إحساناً في أمورهم فهل يتوقعون إلا المخاوف والأحزان؟!

في الأمم الجديرة بالحياة والنصر يؤدى الواجب برغبة باطنة ودقة ظاهرة، وينطلق الكبار والصغار إلى وظائفهم وحرفهم بباعث من الشوق لا بسوط من الرهبة، ويتنافس المتنافسون في إحسان ما بأيديهم ابتغاء وجه الله سبحانه ومثوبته، وإخلاصاً للأمة ومستقبلها قبل أن يكون شيء من ذلك نظير المال.

وقد كان العرب الأولون ـ تمشياً مع ت ربيتهم الدينية الأصيلة ـ نماذج رائعة في هذه المجالات، فلما شبت الأجيال الأخيرة في غير منابتها، وأعوزها  معنى الإيمان والشرف في حركتها وسكونها خانها التوفيق في الحرب والسلم، في الداخل والخارج...

وما أشك في أن العرب يتعرضون لعذاب الاستئصال إذا لم يأخذوه الإسلام بقوة، ويذكروا ما فيه لعلهم يتقون.

ما يمنع الإنسان العربي المعاصر أن يكون كأبيه القديم اعتصاماً بالوحي وامتداداً معه وعيشاً في إطاره أو موتاً في سبيله؟

إن الوهدة التي تتقلب في حمأتها ما ينقذنا منها إلا هذا المنهج المبين، أما الدعاوى العريضة دون سناد من يقين وفداء فقد افتضح خبؤها للخصوم والأصدقاء على سواء، وأضحت عديمة الغناء.

نحن فقراء إلى جيل آخر من الرجال، والرجولة المنشودة صفة أضفاها القرآن الكريم على صنفين متميزين لم يمنحهما غيرهما:

الصنف الأول: أولو النجدة والوفاء الذين يقولون الكلمة ويموتون عندها صدقاً مع ربهم واحتراماً لأنفسهم.

وكأني أنظر إلى أنس بن النضر وهو يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين أما والله لئن التقينا بالمشركين ليرين الله ما أصنع هذه يمين إنسان عارم الثقة بنفسه وقدرته على الصمود والتضحية، يمين من ورائها إيمان بعيد الآماد لا يزيغ ولا ينبو.

ولقد ثبت هذا الرجل في أحد وتلاشى كيانه بين أسلحة أعداء الله ولكنه هو وأنداده من الأبطال كانوا الجسر الذي عبر عليه الإسلام إلينا وإلى قرون أخرى لا يعلمها إلا الله تعالى.

وجدير بهم ما نزل فيهم من كلام الله الخالد: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] {الأحزاب:23}

أما الصنف الآخر من الرجال الذي تتطلع إلى ملامحهم الطيبة الطاهرة: فهم مدمنوا الصلاة عشاق المسجد، ذاكروا الله بالغدو والآصال، أصحاب السرائر الصافية، والأيدي السخية والضمائر المراقبة لربها، المستعدة ليوم الحساب:[فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ] {النور:37}.

هل نطمع أن تربي الناشئة على هذا الغرار وأن يكثر في أمتنا هذا اللون من الرجال.

إن العين تلمح أجساداً متحركة بالمآرب الدنيا وبغام كبار وصغار نسوا الله فأنساهم أنفسهم ذلكم هو الغناء الذي يضيع به اليوم والغد فهل نتغير ليغير الله ما بنا؟

فإن الهزائم السود التي أصابتنا تعود قبل أي شيء إلى قلة الرجال الذين شرح الكتاب نعوتهم ورسم مستواهم.

إن الرجولة عندنا صفة جسدية ترادف الذكورة، ومع ذلك فهي رجولة ترفض المشقات وتعشق الملذات، وتحسب الشبع والري والزينة والظهور الشخصي مثلاً رفيعة، و الكثرة من هؤلاء قلة، والعراك بهؤلاء لا أمل فيه.

قد أسأل نفسي لماذا يخرج العمل شائهاً أو تافهاً من أيد كثيرة عندنا مع أن المعارف النظرية لإكماله وإغلائه موفورة؟

والجواب الذي لا أرى غيره: هو فقدان الإيمان الحار والاعتقاد الموجه، وتحول الدين في القلوب إلى قوة كهربائية محاطة بالمواد العازلة المبطلة لأثرها.

وقد عرض ذلك لأهل الكتاب الأولين فأفسد أمورهم وأحبط أجورهم وحذر الله المسلمين منه عندما قال لهم:[أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] {الحديد:16}.

والواقع أن الإنسان العربي اليوم أشبه باليهود والنصارى أيام البعثة وعلى عهد الخلافة الراشدة إنسان طال عليه الأمد واستغلق فوائده دون هدايات الله سبحانه.

بل وجد في العرب اليوم من يضيق بالانتساب إلى الإسلام ومن يغضب إذا ذُكِّر بأحكامه وشرائع وشعائره.

ولن تقوم للعرب وللمسلمين قائمة إلا بعودة قوية واضحة للإسلام تنسج حياتهم الفردية والجماعية على المنوال الذي نسج حياة آبائهم في العصر الأول فطلع بهم فجر وولد بهم تأريخ.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد 12من السنة الثالثة والعشرون، شعبان 1389 اكتوبر 1969

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين