تَمَيُّزُ الأُمَّةُ المُسْلمةُ في الوَشِيْجَة

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ وبعد:

ارتبط بها أفراد الأمة المسلمة كآصرة وحيدة متفرَّدةٍ هي أبين بيان في قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} المجادلة: ٢٢. هذه الآية توضِّح بجلاءٍ، أنَّ جنسية المسلم عقيدته. العقيدة فحسب هي الرابطة التي جاءت في توجيه الله لنوح عليه السلام: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} هود: ٤٦. والتي حكاها لنا ربّنا في المثل عن امرأة نوح وامرأة لوط، واستنارت لنا في بيان الله لإبراهيم عليه السلام: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة: ١٢٤. وقصَّة أصحاب الكهف قريبة المنال لكلِّ آخذٍ.

ومن هنا قال عليٌّ رضي الله عنه: "ألا وإنَّ ولي محمَّد من أطاع الله، وإن بعدت لحمتُهُ، ألا وإنَّ عدو محمَّد من عصى الله وإن قربت لحمتُهُ".

وهذه الوشيجة التي أدندن حولها هي نفسها التي عرّج عليها الشّاعر إقبال:

الشّاعر الهنديُّ يهمس في أدبْ=إنْ لمْ يَسؤكم يا سلاطين العربْ

أنَّ التولِّي للنبيِّ براءةٌ من=عمِّه الداني القريب أبي لهبْ

ومن قبله سلمان الفارسي:

أبي الإسلام لا أب لي سواه=إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ

والموقف الصحيح للمسلم، أن يقف مع سلمان وإقبال، لمكان هذه الوشيجة بينه وبينهما، وينأى بنفسه عن مثل الشاعر القروي، وإن كان عربيَّاً، وذلك لقوله:

هبوا لي عيداً يجعل العرب أمَّةً=وسيروا بجثماني على دين برهم

سلامٌ على كفرٍ يوحِّد بيننا=وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

كما يتعاطف أيضاً مع رجلٍ من أمثال سليمان الندوي، القائل في كتابه تاريخ الإسلام في شبه القارَّة الهندية: "وإن كنا ننسى فلا ننسى، بأنَّ بلادنا قد تشرَّفت بأقدام الفاتحين من العرب المسلمين". أو أبي الحسن الندوي، الذي قال في إحدى محاضراته: "إنَّ مصير المسلمين في كلِّ بلدٍ، مرتبطٌ بمصير العرب. فإذا عزَّ العرب عزَّ الإسلام والمسلمون، وإذا ذلَّ العرب ذلَّ المسلمون. أولئك الذين لا أعدل بهم قوماً، ولا أعدل بكتابهم كتاباً، ولا أعدل بلغتهم لغةً، ولا أعدل بحضارتهم حضارةً. على ذلك أحيا، وعلى ذلك أموت".

وينأى بنفسه مرَّةً أخرى، عن مثل ميشيل عفلق، الذي كان يقول لطلابه في مدرسة التجهيز الأولى بدمشق، في منتصف القرن الماضي؛ وكان أستاذاً لمادَّة التاريخ: "كان محمَّد بن عبد الله زعيم عصابة!"؛ وتصدَّى له وقتها علي الطنطاوي رحمه الله؛ بقوة وشجاعةٍ.

ثمَّ إنَّ عفلق بعد ذلك، ومجاملةً لأتباعه في حزب البعث، ودغدغةً لمشاعرهم، كتب كتيِّباً في ذكرى المولد عنونه بـ: [ذكرى الرسول العربيِّ]، نزع فيه عن رسول الله صفتي النبوة والرسالة، واعتبره زعيماً قومياً، وكان عهده تجسيداً لأمال العرب، وعلى كل عربيٍّ أن يجسِّد محمداً. ولخَّص رؤيته في النبوة والرسالة بذلك الشعار الذي لا يزال البعثيون يرفعونه باعتزاز: كان محمَّد كلَّ العرب، فليكن اليوم كلُّ العرب محمَّداً!

وإذا كنت قد ذكرت هنا المشين من القول على سيِّد الخلق، وحبيب الحقِّ على لسان من يتيه بعروبته، فالمفارقة أنَّ أحد شعراء العجم قد قال: "إنَّ محمَّداً العربي هو الذي يتشرَّف به كلُّ أحدٍ في الدنيا والآخرة، فمن أبى أن يكون تراب عتبَته، ترِبت يداه ورغِم أنفه".

وحدث أن اجتمع مرَّةً الشاعر [أختر الشيرازي] في فندق في [لاهور] مع شبابٍ شيوعيين، وكان الأستاذ الشيرازي قد شرب كأسين من الخمر؛ وبعد هنيهةٍ شعر بالنشاط والمرح؛ فسأله أحد جلسائه: وما رأيك بمحمَّد؟ وكان يعرف خلفية هذا السؤال الخبيثة منه؛ فتناول كأس الزجاج، وضربها على رأسه قائلاً: يا قليل الأدب! أنت توجِّه هذا السؤال الوقح، إلى رجلٍ مذنبٍ معترفٍ بشقائه، ماذا تريد أن تسمع من فاسقٍ؟! وكان جسمه يرتعد، وانفجر باكياً، وأجهش بالبكاء، وأقبل على الشابِّ الوقح يقول له في عنفٍ وغضب: كيف سوَّلت لك نفسُك يا خبيث، أن تذكر هذا الاسم النزيه المقدس؟! كيف تجاسرتَ على ذلك؟ يا قليل الأدب، يا قليل الحياء!

قارن هذا الموقف مع ما كتبه أحمد حسن الزيَّات في مجلَّة الأزهر، عدد شهر محرَّم 1383هـ تحت عنوان: "أمَّة التوحيد تتوحد"، ومما جاء فيه: "إنَّ الوحدة المحمدية كانت كليةً عامَّةً لأنها قامت على العقيدة، ولكنَّ العقيدة مهما تدُم قد تضعف، أو تحول! وإن الوحدة الصلاحية كانت جزئيةً خاصَّة لأنها قامت على السلطان، والسلطان يعتريه الوهن فيزول! أما الوحدة الناصرية فباقيةٌ ناميةٌ لأنها تقوم على الاشتراكية في الرزق، والحرية في الرأي، والديمقراطية في الحكم؛ وهذه المقومات الثلاثة ضمان دائم للوحدة!".

ومنذ وقتٍ قريبٍ لفَتَ نظري موقفٌ قويٌ لامرأةٍ حديثة عهدٍ بالإسلام. إنَّها الصحفية البريطانية [إيفون ريدلي] التي كانت حركة [طالبان] قد اعتقلتها أثناء محاولتها دخول أفغانستان في أكتوبر 2001م، قبل أن تطلق سراحها فيما بعد؛ وتعلن إسلامها. انتقدتْ في محاضرةٍ لها ضمن فعاليات المؤتمر العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلاميِّ، الذي تستضيفه القاهرة، هجوم وزير الثقافة المصري على الحجاب، وقالت: "إنَّ هؤلاء العرب الذين يريدون أن يكونوا غربيين في سلوكهم أكثر من الغربيين أنفسهم، يثيرون السخرية أمام الآخرين! ومن غرائب ما ذكرته قولها: آخر مرة زرت فيها القاهرة، تمَّ تلقيبي بالمتطرِّفة! وهذا الاتهام جاءني من شيخ الأزهر الدكتور [محمَّد سيِّد طنطاوي]، لأني عندما مدَّ إليَّ يده لمصافحتي، رفضتُ المصافحة التزاماً بحكمٍ شرعيٍّ؛ فقال لي: "أنت متطرِّفة!".

إذن لكل أمَّةٍ من الأمم ركائز تمثِّل القاعدة الأساسية لبنائها، وفي مقدِّمتها الهويَّة التي تعدُّ المحور الذي تتمركز حوله ثوابت الأمَّة، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة.

وعندما تفقد الأمة هويِّتَها فهي أوهن من بيت العنكبوت، ثم مآلها السقوط الحضاري. وقد انتبه أعداؤنا لهذا المعنى فكانوا يخاطبوننا بوصفنا مسلمين، ولا ينظرون إلى دوائرنا الضيِّقة كالقومية مثلاً، فجاء خطاب [نابليون بونابرت]، لأهل مصر على النحو الذي ذكرته. وجاء توصيف اللورد اللنبي المندوب السامي في مصر للثورة المصرية دقيقاً؛ حين قال: "إنَّ الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة. أفرجوا عن سعد زغلول، وأعيدوه إلى القاهرة".

لذلك كان العداء للأزهر شديداً فدخلت خيول الفرنسيين باحته، وجعلوا منه [اصطبلاً] بعد أن تظاهر نابليون بالإسلام، وترَّأس ديوان العلماء؛ ثم أخذ يدعو للقوانين الوضعية تحت ذريعة الإصلاح! فتنبَّه الشيخ الشرقاويُّ لهذه اللعبة الممقوتة فرمى بـ[الخلعة السنيَّة] في وجه [نابليون]، وقال له: "لو كنت مسلماً حقاً لطبقَّتَ الشريعة الإسلامية في بلدك فرنسا، فغضب [نابليون] غضباً شديداً، وأمر باعتقال الشيخ؛ ثم ضُرِب الأزهر بالقنابل من القلعة!

العقيدة هي الآصرة الأصيلة، وهي التبر، وما سواها هو ترابٌ مرمِيٌّ هنا وهناك. وثمَّة إجماع للعلماء على أن الرجل إن مات، وليس له من الأقرباء إلا ابن كافر، أنَّ إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة، فدلَّ ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية.

قال عملاق الفكر الإسلامي سيِّد قطب رحمه الله: "إلا أنَّ وحياً نزل من السماء، على رجل من البشر، فيه من الله سلطان، يخاطب فطرة البشر من وراء الركام، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح، فيستجيشهم الحُدَاءُ على طول الطريق إلى القمَّة السامقة.. فوق.. فوق.. هنالك عند الإسلام!.

ثم تتراجع البشرية عن القمَّة السامقة؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح. وتقوم مرَّة أخرى في نيويورك، وواشنطن، وشيكاغو، وفي جوهانسبرج. وفي غيرها من أرض الحضارة! تلك العصبيات النتنة! عصبيات الجنس واللون. وتقوم هنا وهناك عصبياتٌ وطنيةٌ، وقوميةٌ، وطبقيةٌ؛ لا تقلُّ نتناً عن تلك العصبيات.

ويبقى الإسلام هناك على القمَّة، حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية. يبقى الإسلام هناك رحمة من الله بالبشرية، لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل، وترفع عينيها عن الحمأة، وتتطَّلع مرَّة أخرى إلى الخط الوضيء. وتسمع مرَّة أخرى حداء هذا الدين؛ وتعرج مرَّة أخرى إلى القمَّة السامقة على حداء الإسلام ".

هذا ومن المعلوم أنَّ القومية جاءتنا عن طريق الغرب خطَّط لها الصّهاينة، وأريد منها أن تكون مناقضة للإسلام، خارجة على الخلافة العثمانية. تزَّعمها نصارى العرب أولاً، ثم بعض العرب الذين نصَّبتهم الماسونية اليهودية، وبمخطَّطاتٍ من بريطانيا العظمى، والصهيونية العالمية، عن طريق ممثليها، من أمثال [لورانس العرب]؛ وغيره. ثم أخذ هذه النعرةَ النصارى المارونيون في لبنان بالتحديد، ونشروا القومية العربية ففرَّقت بين المسلم من أرض العرب، وبين المسلم من البلدان الأخرى.

وحسبك أنَّ من أبرز دعاة القومية أناسٌ غير مسلمين، أو محسوبون على الإسلام فحسب؛ من أمثال زكي الأرسوزي، وأنطون سعادة الذي ضاق بالعروبة ذرعاً، فأخذته الحميَّة الفينيقية السورية فالتزمها فكراً. ومثله طه حسين الذي جعل من الفرعونية في مصر صنَماً. وسبق أن مهَّد ميشيل عفلق أذهان أتباعه للاعتزاز بمرحلة الجاهلية من تاريخ العرب خاصَّة، واعتبار هذه الجاهلية بمثابة الأصالة الكاملة للوجود العربي!.

وبعض الناس يُلوَّح لهم برايةٍ من بعيد، فيقصدونها من غير تمحيص على حدِّ تعبير الأستاذ محمَّد أحمد الراشد.

كان هذا المعلَمُ هو المخطَّط الذي حمله المستشرقون، وأذنابهم من المستغربين، وهم يجوسون ديار الإسلام، "هو نبش الأرض لاستخراج حضارات ما قبل التاريخ؛ لذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام، وبين تلك الحضارات، تمهيداً لاقتلاعهم نهائياً من الولاء للإسلام" .

وعندما لاحظوا أنَّ شريحةً كبيرةً من المسلمين لم يَرُقْ لهم ذلك فالتفتوا إلى دائرة أضيق، وهي الوطنية، وأغرَوا بها من له حضور في المجتمع من عليَّة القوم من أمثال أمير الشعراء شوقي فزلَّت قدمُهُ فقال، وهو يتحدَّث عن مصر:

وجه الكنانة ليس يغضب ربكم=أن تجعلوه كوجهه معبودا

وَلُّوا إليه في الدروس وجوهكم=وإذا فزعتم فاعبدوه هجوداً

وفي المقابل فثمَّة صوتٌ علا من خلال مطولَّة رائعة، ألقاها الأديب المفكر محمَّد المجذوب في دمشق فترة ستينات القرن الماضي، وممَّا جاء فيها:

من يبك عهد المَوَامي والدّمى فأنا=والحمد لله قد حطمت أصنامي

شغلت قلبي بحبِّ المصطفى وغدت=عروبتي مثَلي الأعلى وإسلامي

أما في السابق، وفترة حكم الإسلام فالأمر مختلفٌ تماماً، فقد قامت دولة المرابطين على أكتاف البرابرة الذين حملوا هذا الدين إلى الأندلس في الفتوحات؛ وابن خلدون العالم الكبير والمؤرخ، ولد في تونس، وفيها نشأ وانتقل إلى بلاد الأندلس، فاستقبلوه استقبالاً حافلاً، وانتقل إلى مصر فعينوه فيها قاضياً. وفي الجزائر نجد مثلاً أن عبد الحميد بن باديس كان بربرياً صنهاجياً. وهكذا كانت الأمَّة:

ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً=الشام فيه ووادي النيل سيانُ

وسليمان الحلبي عندما قتل الجنرال [كليبر] لم يكن مصرياً؛ بل لأنه مسلم.

هذا وإن الرباط الروحي لقلوب المسلمين، أمره مستغربٌ عند الذين لم تستشعر أفئدتهم حلاوة الإيمان بالله.

قال الدكتور أحمد القديدي، في كتابه الإسلام وصراع الحضارات: "إنَّ ما يجمعنا هو المنقذ من الضلال، إنها تلك الروح الحية المتوهِّجة من [سراييفو] بقلب أوربا، إلى [تمبكتو] بقلب أفريقيا، ومن [سمرقند] بقلب آسيا، إلى [نيويورك]، حيث ينشط المسلمون السود بقلب أمريكا، ومن [الدوحة] بقلب الخليج، إلى [نواكشوط] بالصحراء المغاربية، ومن معهد الثقافة الإسلامية بـ[بكِّين] عاصمة الصين الشعبية، إلى مركز الدراسات الإسلامية بـ[واشنطن] عاصمة الولايات المتحدة، ومن [إسلامبول] إلى [الألف جمعية إسلامية] النشيطة في مدن أوربا الغربية. إنها الأشواق والطموحات؛ والتطلعات نفسها، تهزُّ الضمائر وتحرِّك السرائر.

فانظر إلى المسلم المعاصر أينما كان. في أندونيسيا، أو في السنغال، أو في أفغانستان، أو في الصومال، عربياً كان في مكَّة المكرمة، أو سلافياً قي مدينة [غوراجدة] البوسنية، أو أفريقياً في [لاغوس] النيجيرية، أو آسيوياً في [مانيلا] الفلبينية. لاحظه، وهو يشاهد مجازر [سراييفو]، أو عدوان الصهاينة على مسلمي فلسطين، على شاشات التلفزيون، تكتشف تلك الوحدة المثالية الرائعة في ردِّ الفعل، فتُقسِمُ أنَّك بإزاء ظاهرة حضارية مدهشة، منعشة، اسمها الروح الإسلامية، مهما اختلفت الأعراق، والألوان، والجنسيات، ومعدَّلات النمو، ومستويات الدخل الفردي، إنها الروح الإسلامية، حركتها الثورة الاتصالية الحديثة، وشحذتها هذه السرعة المدوِّخة في وصول الأخبار عبر الأقمار ... كانت تلك الروح الإسلامية كالجمر المتوقِّد تحت الرماد. كانت ساخنة حارة، لكنها مخفية، ولعل الناس من حولها حسبوها ميتة، ركاماً حطاماً، بينما هذا العصر أحياها، بفضل آلية انتقال الصورة، فعبارة [الله أكبر] التي يطلقها المجاهد الشابُّ في مدينة الخليل بفلسطين المحتلة، تدِّوي في اللحظة نفسها، بفضل [سي. إِن. إِن] الأمريكية في عائلة سودانية بأمِّ درمان، وعائلة تونسية بالقيروان، وعائلة مسلمة في [تركستان]. في الثواني نفسها التي يرفع فيها الأذان في مدينة [بيهاش] البوسنية، عبر قعقعة المدفعية الصربية الصليبية، تكون أصداؤه وصلت الجزائر، وبيروت، وإسلام آباد".

والذين استناروا بهدي السماء قد طرحوا العصبية أرضاً، وأبرئوا ذممهم من دعاوى الجاهلية؛ امتثالاً لله تبارك في علاه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كلُّ ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسبٍ، أو بلدٍ، أو جنسٍ، أو مذهبٍ، أو طريقةٍ؛ فهو من عزاء الجاهلية".

وقال ابن قيِّم الجوزية رحمه الله: "الدعاء بدعوى الجاهلية، كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان، ومثله التعصب للمذاهب، والطوائف، والمشايخ، وتفضيل بعض على بعض. وكونه منتسباً إليه يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه، ويعادي، ويزن الناس به، فكلُّ هـذا من دعوى الجاهلية".

وجاء سيِّد قطب في العصر الحديث ليصوغ لنا فكر ابن تيمية، وابن قيِّم الجوزية بقالبٍ جديدٍ، قال رحمه الله: "وما كان الإسلام ليخلِّص الناس من الأصنام الحجرية، والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات، والقوميات، والأوطان، وما إليها يتقاتل الناس تحت راياتها، وشعاراتها؛ وهو يدعوهم إلى الله وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه.

وعندما أراد الله أن يعرِّف المسلمين بأمَّتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرَّفها لهم في صورة أتباع الرسل كلٌّ في زمانه، ولم يقل للعرب: إن أمَّتكم هي الأمَّة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود: إنَّ أمَّتكم هي بنو إسرائيل، أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي: إنَّ أمَّتك هي فارس! ولا لصهيب الروميِّ: إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشيِّ: إنَّ أمَّتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب، والفرس، والروم، والحبش: إنَّ أمَّتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقَّاً على أيام موسى، وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، ويحيى، ومريم، هذه هي أمَّة المسلمين في تعريف الله سبحانه. فمن شاء له طريقاً غير طريق الله فليسلكه. ولكن ليقل: إنه ليس من المسلمين! أما نحن الذين أسلمنا لله، فلا نعرف لنا أمَّة إلا الأمَّة التي عرَّفها لنا الله.

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} الأنعام: ٥٧ " .

ومن المفارقة أن ينهزم بعض المسلمين، ويصابوا في مقتلٍ في تفكيرهم، بينما غيرهم يعتزُّ بقيَمِهِ، وقد أصابها الزيف من كل جانب؛ ولعلَّ المثال التالي يوضِّح المعنى الذي رمت بيانه: عُقدِت ندوةٌ في فلسطين المحتلة بتاريخ 19/12/1980م، قال فيها الدكتور مصطفى خليل رئيس وزراء مصر الأسبق في مداخلةٍ له: "أودُّ أن أطمئنكم أنَّنا في مصرَ نفرِّق بين الدين والقومية، ولا نقبل أبداً أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى عقائدنا الدينية!". فوقف بروفيسورٌ يهوديٌ يدعى [دافين] قائلاً: "إنَّكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكنني أحب أن أقول لكم: إننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إنَّ اليهودية مجرَّد دين فقط؛ بل إننا نؤكِّد لكم أن اليهودية دين، وشعبٌ، ووطنٌ". وقام [تيفي ياقوت]، وهو [أكاديميٌّ] أيضاً، وقال: "أودُّ أن أقول للدكتور مصطفى خليل: إنَّه يكون على خطأٍ كبيرٍ إذا أصرَّ على التفريق بين الدين والقومية، وإننا نرفض أن يعتبرنا الدكتور خليل مجرَّد أصحاب دين لا قومية، فنحن نعتبر اليهودية ديننا، وشعبنا، ووطننا!".

ثم إنَّ الواقع التاريخيَّ يقول: إنَّ العرب لم يخلِّد التاريخ ذكراهم إلا بعد تأطُّرهم بالإسلام، ولولاه لانطوت صفحتهم منذ زمنٍ، مثل نظائرهم من الأمم.

إذن بلغت الأُمَّة الإسلاميَّة من الكمال والمنعة الذروة، عندما تمثَّلت الإسلام في حياتها وطبَّقته منهجاً في جميع شؤونها، وهذه شاهدة اللَّه لها بذلك، قال تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} الفتح: ٢٩. وفي القرآن الذكر المجيد التليد لهذه الأمَّة، بعد أن كانت نكرةً من النكرات، تعيش وتموت، ولا يحسُّ بها أحدٌ، ثمَّ أعلى القرآن ذكرها، وزكَّى لها حضورها، وبوَّأها مكانتها، وأسلمها قيادة البشرية، وجعلها في مكان الريادة والصدارة، وفي موقع الأستاذية، ومقدمة القافلة الإنسانية. ولا ذكر لهذه الأمَّة إلا بالتزام الشريعة الربانيِّة، والتمثُّل بها عقيدةً ومنهجاً والتزاماً. قال الله تعالت صفاته: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الأنبياء: ١٠. وقال أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} الزخرف: ٤٤. انتهى.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين