تكريم الله لنبيِّه بأخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا به وينصروه إن ظهر في زمانهم

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} من الكتاب والحكمة، هو تالنبي صلى الله آل عمران: عليه وسلم{ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى } [آل عمران: 81].

هذا تكريمٌ كبيرٌ من الله لنبيِّه بأخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا به وينصروه إن ظهر في زمانهم، قال التقي السُّبكيُّ: «ويؤخذ منه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نبيُّ الأنبياء»، وقال البوصيريُّ:

فإنَّهُ شَمْسُ فَضْلٍ هُمْ كَوَاكِبُهَا=يُظْهِرْنَ أَنْوَارَهَا للنَّاسِ في الظُّلَمِ

الرد على المفسرين الذين قالوا: إن الله أخذ الميثاق على كل نبي في النبي الذي يأتي بعده.

قلت: ذهب جمعٌ من المُفسِّرين إلى أنَّ معنى الآية: أنَّ اللهَ أخذ الميثاق على كلِّ نبيٍّ في النبيِّ الذي يأتي بعده، فأخذ العهد على آدم إن جاء رسولٌ مُصَدِّقٌ لما معه آمن به ونصره، وأخذ العهد على إدريس ونوحٍ وهودٍ وصالحٍ... وهكذا إلى عيسى عليهم السلام. وهذا التفسير -وإن قال به سعيد بن جُبيرٍ وطاوس- غلطٌ لا يصح اعتماده، والتفسير الذي ذكرناه أوَّلًا هو الذي لا يجوز غيره.

وبيان ذلك من وجوهٍ:

الأول: أنه لم يرد في آيةٍ ولا في حديثٍ صحيحٍ أنَّ الله تعالى أخذ العهد في شأن نبيٍّ غير نبيِّنا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

الثاني: أنَّ القرآن لم يصف نبيًّا بأنه مُصَدِّقٌ لما بين يديه أو مصدِّقٌ لما مع الأنبياء قبله غير نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام، ولم يوصف كتاب بأنه مصدِّقٌ لما بين يديه غير القرآن، قال تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } [البقرة: 89]، { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97] الآية، { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 101] الآية، { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [المائدة: 48] { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [الأنعام: 92].

وانظر كيف قال الله تعالى في عيسى عليه السَّلام: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].

فعيسى الذي جاء مُتمِّمًا لشريعة موسى عليهما السَّلام لم يكن إلَّا مُصَدِّقًا لما بين يديه من التوراة، والإنجيل الذي جاء به كان مصدِّقًا لما بين يديه من التوراة فقط، ولكن التوراة التي جاء عيسى مُتمِّمًا ومُصَدِّقًا لها لم تكن مُصَدِّقة لما أُنزل على إبراهيم أو لوطٍ أو شعيب عليهم السَّلام لتباين الشَّرائع المُنزَّلة، ولأنَّ تصديق الكتب كلها والهيمنة عليها من خصائص القرآن العظيم.

الثالث: أنَّ بعثة نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام عامَّةٌ وشريعته دائمةٌ، فناسب أنْ يُؤْخَذ العهد على الأنبياء -إنْ ظهر في زمانهم- أنْ يؤمنوا به وينصروه لعموم دعوته التي تشملهم بخلاف الأنبياء، فقد كان كلُّ واحدٍ منهم يُبعث لقومه خاصَّةً، وربما اجتمع في الوقت الواحد نبيِّان وثلاثة وأكثر، كلُّ نبيٍّ في قريةٍ، كإبراهيم ولوطٍ، ويعقوب ويوسف، وموسى والخَضِر عليهم السَّلام، ولم يثبت أنَّ نبيًّا اتَّبع غيره وترك قومه أو أمرهم باتباع ذلك النبيِّ، ولولا أنَّ موسى ذهب يطلب الخَضِر ليتعلَّم منه بواطن الأمور التي أوحي بها إليه ما قُدِّر لهما أنْ يجتمعا، فلا يعقل أنْ يؤخذ عهدٌ على نبيٍّ في نبيٍّ آخَر لا يلزمه اتباعه ولا الاجتماع به.

ولا يرد على هذا قول الله تعالى في شأن زكريا: { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]؛ لأنَّ الملائكة لم يُبشِّروه بيحيى مُصَدِّقًا بعيسى باسمه وشخصه كما بشَّرت التوراة والإنجيل بنبيِّنا باسمه ونعته، ولكن مصدِّقًا بكلمةٍ من الله؛ أي: بعيسى من حيث كانت ولادته آيةً كما قال الله تعالى:{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}[المؤمنون: 50]، والحِكْمة في ذلك: الرد على النصارى؛ لأنَّه إذا كان يحيى -وهو يوحنا المعمدان عندهم- يؤمن بأنَّ عيسى كلمةٌ من الله، أي: أوجده بكلمة «كن»، كان ادِّعاؤهم فيه أنَّه ابن الله، أو ثالث ثلاثة باطلاً لا ينبني على أساسٍ.

الرابع: أنَّ الله تعالى أخبر عن كبار الأنبياء أنهم بشَّروا بنبيِّنا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد تقدَّم دعاء إبراهيم وإسماعيل: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}[البقرة: 129].

وسيأتي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].

ولم يأتِ هذا في شأن نبيٍّ غيره، ومِن ثَمَّ آمَن به تُبَّع الأكبر وحبيب بن إسرائيل النجار وورقة بن نوفل وغيرهم قبل ظهوره، ولم يؤمن بنبيٍّ أحدٌ إلَّا بعد ظهوره كما قال الزمخشريُّ.

الخامس: أنَّ الله تعالى أمَدَّ نبيَّه بالملائكة يقاتلون معه وينصرونه كما سيأتي، وحيث وجب نصره على الملائكة الذين لم يتعبَّدهم الله بشريعة نبيٍّ قبله لا في قتال ولا في غيره، فمن المعقول جدًّا أنْ يجب نصره على إخوانه الأنبياء.

السادس: أنَّ الله تعالى وصف صحابته في التوراة والإنجيل كما سيأتي في (سورة الفتح)، فبهذه الوجوه -وهي مأخوذةٌ من القرآن- تكون آية الميثاق نصًّا في نبيِّنا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا تحتمل غيره وقد قلت في الاستغاثة:

وفي آيَةِ المِيثَاقِ عَهْدٌ مُؤكَّدُ=مِن الله للرُّسْلِ الكِرَامِ بجُمْلَةِ".

"دلالة القرآن المبين على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين"للشيخ عبد الله بن الصديق الغماري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين