تكريم العلامة الأديب الشاعر الناقد محمد رجب البيومي

 

- ضيفنا هو الدكتور محمد رجب البيومي عميد كلية اللغة العربية السابق بجامعة الأزهر، وأستاذ الأدب والنقد المتفرغ بكلية اللغة العربية بالمنصورة، وعضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة بجامعة الأزهر.

- نال جوائز خمساً من مجمع اللغة العربية في النقد والشعر والمسرحية والدراسات الأدبية، في عدَّة سنوات متتالية، وبمؤلفات مستقلة. اشترك في عدة مؤتمرات أدبية بالعالم العربي، وحاضر في جامعات مختلفة بالوطن العربي.

- تنوَّعت مؤلفاته بين النقد والتاريخ والأدب والبلاغة والقصة والشعر، نال جائزة "شوقي" للمسرحية الشعرية بالمجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر، له في الإبداع الشعري: ديوان "صدى الأيام" وديوان "حصاد الربيع"، وديوان "حنين الليالي" وديوان "من نبع القرآن" وله من المسرحيات مسرحية "ملك غسّان" ومسرحية "انتصار" ومسرحية "فوق الأبوة" ومسرحية "بأي ذنب؟".

ومن البحوث الأدبية له:
- كتاب "الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير"، وكتاب "النقد الأدبي في معركة الشعر الجاهلي"، و "البيان القرآني"، و "خطوات التفسير البياني"، و "البيان النبوي"، و "أحمد حسن الزيات بين النقد والبلاغة"، و "السيرة النبوية عند الروَّاد"، و "دراسات أدبية"، وله "حديث القلم" (تحت الطبع)، و "محمد توفيق البكري" (لم يُطبع). وله في الدراسات التاريخية: "النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" (ستة أجزاء)، و "في قصور الأمويين"، و "صفحات هادفة من التاريخ"، و "مدرسة المسجد"، و "مع الأبطال"، و "الأزهر بين الفكر والسياسة"، و "ابن حنبل وجهاده السياسي"، و "علماء في وجه الطغيان".

ومن البحوث الإسلامية له:
- "قضايا إسلامية" (جزآن)، وفي ميزان الإسلام (جزآن)، و "التفسير القرآني" و "القيم الإنسانية في الإسلام من منطلق إسلامي" (جزآن)، و "معارك الإسلام في العصر النبوي"، وله بحوث واتجاهات شتى، واثنتا عشرة قصة في عدة مجموعات للطلاب.

- بدأ الكتابة في الصحف والمجلات منذ أربعين عاماً في شتى المجلات الأدبية كالرسالة، والثقافة، والكتاب والأديب، والهلال، والأزهر، والأقلام، وغيرها من صحف العالم العربي، يسكن بالمنصورة عاصمة الدقهلية منذ رجوعه من المملكة العربية السعودية عام ألف وتسعمائة وستة وسبعين للميلاد إذ كان أستاذاً بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
 
 
(( كلمة الأستاذ عبد الفتاح أبي مدين رئيس النادي الأدبي بجدة  ))

- بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
- وبعد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا سعيد في هذه الليلة بهذا اللقاء التلقائي، فقد كان لقاء الأستاذَين الكبيرَين في وقت واحد في مدينة جدة في موسم الربيع أكبر فرصة لنا لنلتقي بهما ولنستمع إليهما، وما أقل ما يلتقي الأصدقاء، لأن مشاغل الحياة سرقت كل واحد عن هذه اللقاءات حتى عن الرسائل التي كان يتحدَّث عنها الناس، وكانت هناك كتب تؤلف في رسائل الأصدقاء، جاء الهاتف ليقطع هذه الرسائل وفيها من الأدب الشيء الكثير الجميل، فانتهى عهد الرسائل بهذه الوسائل الحديثة.

- أبدأ بالحديث المختصر عن أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي فقد عرفته منذ عشر سنوات، حينما كنت أقرأ بعض كتبه، تلك الكتب عن النهضة الإسلامية وفي سِيَر أعلامها المعاصرين، فأعجبني هذا المنهج، أعجبني أن يكتب عن رجال كان لهم دور في العلم وفي الأدب، وأخذت أقتطف من كتاباته، وأتطفَّل على فتات مائدته الواسعة، وأكتب تعليقات أريد أن أُشبع بها نفسي، ما كتبت بعد زمن يطول ويقصر، ولكننا لم نلتق رغم أنه كان في الرياض، لم أكن أدري أنه أمضى سنوات أربعاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، ولكننا لم نتعارف إلا من خلال ما كان يكتب، وفي شهر نوفمبر الماضي جاءتني هدية عبارة عن كتاب قَيِّم في دراسات أدبية ورسالة مضى عليها حول كامل، كتبت في نوفمبر 1988م، وجاءتني في نوفمبر 1989م، لم تكن بالبريد - حتى لا نتهم البريد - ولكنها كانت مع رسول لعل هذا الرسول قد شُغل أو لعله فتَّش عني فلم يجدني، فبقيَتْ معه هذه الهدية وهذه الرسالة عاماً كاملاً.
- وحين تلقيت الرسالة فرحت بها فرحاً شديداً، فقد كانت المبادرة الكريمة من أستاذنا ودكتورنا الفاضل الذي تعرفت عليه من خلال ما قرأت وأسرعت لأكتب إليه معتذراً أن رسالته وصلتني بعد عام، وأن هديته وصلتني وأنا فرح بهما، وبدأنا نتكاتب من نوفمبر إلى الآن يعني ثلاثة أشهر مضت وأردت أن أُكَفِّر - إن صحَّ هذا التعبير - عما كتبت، وإن كنت قد كتبت ما ينبغي أن يُكتب من الحق، لا أقول أنني انتقدت، ولكن كتبت تقريراً، وكتبت تعليقات، وكانت لي وقفات مع ما كتبت، وقفات لا تُخدش من جهد وقدرة أستاذنا الدكتور الكبير، ولكنها الرغبة في الكتابة والهواية، التي دفعتني إلى ما أكتب، وقلت: لا بد أن نتعرف على هذا الرجل ولا بد أن يدعوه النادي لكي يشاركنا ويحاضر معنا، فدعوته فاستجاب مشكوراً وجاء فله الشكر، وها هنا وفي هذه القاعة الجميلة، وفي هذه الليلة المباركة نلتقي معه لنستمع إليه مرة أخرى، كما استمعنا إليه البارحة، وهو رجل يشبه الشجرة المثمرة حيثما تضع يدك تجد ثمرة، حيثما تستمع إليه تجد عنده الأدب، عنده حافظة، عنده ذكريات طويلة عريضة واسعة، عنده مؤلفات قرأها عليكم الزميل.

(( كلمة الدكتور مصطفى عبد الواحد ))

- وبعد، فقد شدَّني إلى هذا اللقاء نبأ تكريم الأخ الدكتور محمد رجب البيومي، وقلت: هذا رجل تأخر عنه التكريم كثيراً ونسيته أمة، جاهد من أجلها بقلمه ولسانه وهو أبعد ما يكون عن الأضواء، وأزهد الناس في المدح والثناء، قلت: لا بد أن أسرد في هذا اللقاء شيئاً مما عرفته عنه عن كثب، وأستميحه العذر في أن أكشف بعضَه.
- عرفت الأخ الدكتور رجب البيومي قبل ستة وعشرين عاماً، وكان كما هو العهد به الآن يؤثِر الأقاليم، كان في إقليم الفيوم أستاذاً أو مدرساً أولاً في دار المعلمات، وهو رجل ملأ الدنيا بكتاباته، كانت "الرسالة" تفسح له مكاناً أثيراً في صفحاتها، وكانت المجلات الأدبية في مصر والشام وغيرهما تُحلّه محلاً متميزاً، ومع ذلك فهو هذا الإنسان الزاهد في الألقاب، البعيد عن المناصب، وقد جمعنا لقاء مرة، فقلت له: أنا فلان فإذا به يُسبغ عليَّ الكثير من التشجيع والثناء، وكنت ما أزال في عالم الكتابة أو التحقيق، فإذا به يخبرني أنه أشار إلى كتاب حققته في مقال له في مجلة "الأزهر"، وكان الكتاب هو "ذم الهوى" لابن الجوزي الذي حقَّقته قبل ثلاثين عاماً، قال جعلته من مصادري وأشرت إليه، وما هي إلا أيام وإذا بالأستاذ الشهير العالم الجليل، إذا به بعد أيام يأتي ليزورني وأنا الذي أُعد في ذلك الوقت متلقيِّاً عنه وما أزال، وإذا به رجلٌ كلما جلست معه، كما أشار الأستاذ أبو مدين، يُفيدك علماً، ذو ذاكرة واعية، وذو تجارب كثيرة، جالَس الكبار أمثال أحمد أمين والزيات وفريد وجدي وكان على مذهب التواضع وإخفاء النفس وترك الجهد يتحدث عنه.
- كم كانت لنا من لقاءات في أماكن كثيرة أستمع وأستزيد كلما سألته في موضوع ذكر لك مراجعه وذكر لك من تحدث فيه، بل أتاك بمجلات مضى عليها ثلاثون عاماً يحفظ أماكن البحث فيها ويعرف أسماء من تصدَّوا لها، ما زال كذلك حتى جاءت موجة الألقاب العلمية وكان أزهد الناس فيها، فإذا هو يدخل ميدانها بعد أن تأخر عنها لظروف عمله، لكنه يكتسح وتظهر موهبته وما زلت أذكر مناقشته في "الدكتوراة" والدكتور مهدي علاَّم يُناقشه قرابة أربع ساعات، وهو أستاذ لا يقل مكانة عمَّن يناقشونه، لكن أدب العلم وتواضع العلماء جعله يسير في هذا الطريق.
- ثم بعد ذلك ماذا لقي من العقوق، وهو الذي ملأ الدنيا بحثاً وشعراً وإبداعاً إذا به يُؤثر عليه من هو أبعد الناس عن مواهبه، وإذا بمناصب الجامعة تُعطى لغيره، وهو ساكت عازف، وأذكر باطّلاعي على هذه الأحوال أنه أُخذ عليه تعهد في جامعة الأزهر أن يقبل التدريس في قسم البلاغة بدلاً من قسم الأدب الذي هو اختصاصه، فقبل وأوثر عليه غيره في قسم الأدب ممَّن لم تكن له قصاصة ورق واحدة مطبوعة، لكنها الدنيا وأثرة أهلها، لكنهم الأدباء وأصحاب العقول الراجحة يلقَون دائماً العقوق والعَنَت لأنهم لا يزاحمون بالمناكب، ولا يتصدرون المجالس ولا يُعلنون عن أنفسهم بالحق والباطل.
- ثم بعد ذلك جاء الأستاذ بعد حين إلى جامعة الإمام محمد بن سعود، وقد كنا على موعد أن يأتي إلى جامعة الملك عبد العزيز في عام ألف وثلاثمائة وواحد وتسعين من الهجرة، لكنهم أيضاً ضَيَّقوا عليه فلم يسمحوا له بالخروج إذ إنه لم يُمضِ سنوات النظام الثلاث التي تُشترط حتى يخرج، وجاء إلى جامعة الإمام محمد بن سعود حيث كانت له الجولات الموفقة، وحيث ظهر فيض علمه، وحيث ظهرت عبقريته ومواهبه المتعددة، ولكن سبحان الله، ما هي إلا سنوات حتى ابتُلي بفقد زوجته وكان لها مُحِبّاً ومُكرِماً وفي شعره الكثير مما كتبه في رثائها، فإذا به يترك بعثته كما كتب لي في هذه السنة، تركها أنضر ما تكون وأحسن ما تهيأت لكي يرعى أولاده وبناته، ورجع وهو راضٍ بما قسم الله له، وزاهد في المال، بل لا يزال زاهداً حتى اليوم، فهو أبعد الناس عن الرغبة في هذا الحطام فهو يعيش دائماً كما ترونه كأنه يُحلِّق في عالم خاص، وكأنه دائماً حتى وهو يسير في الطريق يستذكر فكرة أو يُراجع مسألة، أو يُلمُّ بخاطر حتى عُرض عليه بعد ذلك كثيراً أن يأتي إلى جامعة أم القرى في سنوات متعددة فكان يعتذر، وما زال ذلك شأنه حتى سنوات قليلة منذ التقيت به.

- أستاذنا البيومي يتميَّز بشيء، ولا أريد أن أمِلَّ أو أُطيل يجب أن يُسجَّل له، لقد دفع بأيدي كثير من المغمورين، وسُرَّ بإلقاء الأضواء عليهم، وأذكر من تجاربي معه أنه ما كان يكتب في مجلة إلا اقترح عليَّ أن أكتب فيها، فأقول له ولكني لا أعرف المسؤولين فيها فيقول: أنا أُعرِّفهم بك، وبالفعل كان له الفضل في وصلي ووصل غيري، وكان يفرح بذلك عندما يكون اختياره موفقاً وعندما يجد أن الذي اختاره قد أثبت جدارته.
- كذلك البحوث العلمية، أذكر قبل سنوات عندما كنت أكتب عن "ابن شرف القيرواني" التقيت به صدفة وقلت له: إني أكتب عنه فأين شعره؟ إذا هو يرسل لي كتاباً لا يزال أمانة عندي: "النُتَف من شعر ابن رشيق وابن شرف" وكان مطبوعاً قبل خمسين عاماً يحتفظ به في مكتبته، فأرسله إليّ في أقرب مُدَّة، فأفدت منه، ما من شيء يُسأل عنه فيكتمه، أو ما من علم يُطلب منه فيبخل به، وكذلك طلابنا في الدراسات العليا، كم أرسلنا إليه وهو في المنصورة في إقليمه المحبّب مسقط رأسه، كم أرسلنا إليه طلاباً وطالبات يتصلون به ويهاتفونه ويسألونه المشورة ويسألونه المراجع فيرجعون جميعاً شاكرين مما أفاض عليهم من توجيه.
- الأستاذ البيومي لا يحتاج هنا إلا إلى إبراز جانب في تراجمه التي كتبها في علماء العالم الإسلامي أو زعماء النهضة، إنه لم يفرق بين قُطر وقُطر، بل ترى أنه رصد رصداً محكماً لكل الزعامات الإسلامية والمواهب العلمية فأشاد بها في الشام والعراق والحجاز ومصر، بل وغير المسلمين الذين دخلوا في الإسلام كاللورد "هتلي" الذي ألَّف الجمعية الإسلامية بعد أن أسلم فكان كتابه هذا إنصافاً لهؤلاء ورفعاً لأقدارهم ورداً للظلم عنهم، وتحس في كتابته عنهم أنه محامٍ، وليس مجرد مُترجِم، إنه رجل يدفع عنهم العقوق والنكران ويشيد بجهودهم ويبرئهم من الافتراءات التي أُلصقت بهم.
- وأذكر أن أستاذنا الشيخ الغزالي فرح كثيراً عندما كتب عنه الدكتور البيومي في بعض كتبه فأشاد بها وقال: هذه موهبة نادرة، عندما يكتب لا يكتب مجرد عرض علمي أو عقلي، لكنه يخلطه بعاطفته ووجدانه ويطرب له، ومن هنا يأتي تأثيره، يحتاج الدكتور البيومي إلى من يتحدث عنه شاعراً فحلاً محافظاً على نظام الشعر العربي، وما زلت أذكر قصيدته التي نشرها قبل سنوات في فكرة عجيبة، وهي القمر عندما يسقط على المقابر، ماذا تنتفع منه المقابر؟ ومطلعها على ما أذكر:

 أنِرْ ظلمة الأجداث إن كنت تقدر..                                       . 
 
- القصيدة في غاية العجب، يتحدث فيها عن أن الموتى قد انقطعوا عن هذه الحياة فلا يحُسون بضياء القمر ولا ينالهم شيء مما نحتفل نحن به، تأملاته وشعره أشبه ما تكون بشعر العقاد في جانب لكن مع الجمال مع الحيوية مع النضرة ولم يتورط في شيء غير ذلك فيحتاج إلى من يتحدث عنه ناقداً، ويحتاج إلى من يتحدث عنه مؤرخاً، ويحتاج إلى من يتحدث عنه أديباً مُبدعاً في جانب القصة والمسرحية الفصحى، ناصَر العربية وتغنّى بجمالها واستخدمها في هذه الفنون الأدبية، فجعلها طيِّعة سهلة، ولا أستطيع أبداً في مثل هذه التحية المتواضعة أن أُلِمّ بشيء من ذلك، ولا أن أُلِمّ به مؤرخاً، ولا أن أُلِمّ به مفسراً أو متحدثاً عن المجاز في القرآن، وكتابه في إعجاز القرآن، خطوات التفسير البياني للقرآن، هذا الكتاب مرجع من المراجع الأصيلة في موضوعه، استطاع به أن يثبت الإعجاز القرآني وأن يتتبَّع خطواته في أقلام القدماء وأن يُبين إجادة من أجاد منهم ومواضع النقص والزلل في بعض من تكلموا، ولكني: أقول إن الدكتور البيومي يحتاج إلى من يُعالج هذه المسائل كلها في تراثه الحي المكتوب، ومن يعرِّف الناس بأدبه وعلمه، ومن يفيدهم من ضيائه، ولله الحمد أن شرف تكريم هذا الأستاذ العظيم قد أتيح لنادي جدة الأدبي ثم الليلة للأخ الفاضل الأستاذ عبد المقصود خوجه، ونرجو أن يكون ذلك فاتحة لتكريمه على مستوى عالمنا العربي.
 
 
(( كلمة المحتفى به الدكتور محمد رجب البيومي ))

ثم يدعو مقدِّم فقرات الأمسية الأستاذ عدنان صعيدي ضيف الأمسية الأول الدكتور محمد رجب البيومي للحديث قائلاً:
الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي مع ترحيبنا بمقدمك وباحتفائنا بك هذه الليلة يسرنا الآن أن ندعوك للالتقاء بجمهور الحاضرين، ونرجو إن شاء الله أن نسعد بهذا اللقاء.
فيلبي الدكتور محمد رجب البيومي الدعوة ويلقي الكلمة التالية:
- بسم الله الرحمن الرحيم، رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي.. هذه آية كريمة قيلت على لسان سليمان بن داود حينما مر على وادي النمل وسمع نملة تقول: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وجنوده.. وأنا لم أكن أقل دهشة من نبي الله حينما وجدت هذا الحفل الكريم، وحينما وجدت هذا المكان العظيم، جئت ولم يكن في تصوري أن هنا حفلاً سيُقام أبداً، والله جئت على أنَّ سامرنا لن يزيد على ثلاثة أو أربعة، أما هذا الحفل الرائع الذي لم يجل بخاطري، وأما الكلمات الرنانة الممتازة التي قالها زملائي الأعزاء، قالوا ما لا بعين الواقع، فأنا أقل من هذا بكثير، ولكن بعين العطف والحب، وهذا ما أسجله لهم جميعاً، وبالأخص أخي مصطفى عبد الواحد الذي أسبغ عليَّ من فضله ما أنوء بثقله، لذلك لم تكن دهشتي أكثر من دهشة نبي الله حين أقول: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي....
- على أنني حينما زرت جدة بعد عشر سنوات، ووجدت هذا التقدم الحضاري الهائل كنت لا أعتبره وحده مقياس تقدم جدة، بل أعتبر هذا الاحتفال من إنسان لا يعرفني ويتفضل بأن يُسبغ عليّ من عطفه وأن يقيم هذا الحفل، هذا هو اللون الحضاري بجدة، ليست المسألة مسألة مبان وقصور، فشيكاغو قد تكون أفضل من جدة مبانياً وطرقات وناطحات سحاب، ولكن جدة بأخلاقها وسمو رجالها هي الحضارة الأصيلة لأن المباني ليست شيئاً، ولكن هذا الكرم السابغ الذي أضفيتموه عليّ، والذي قام به الأستاذ الجليل دون أن يعرفني ودون أن أعرفه، مما يجعلني أعتقد أن الحضارة حضارة خُلقية لا مادية، وأنها هي أسمى الحضارات..
- ولذلك قد تكون البيداء أحسن من الحضر، لأن البيداء فيها صفات الحضارة، فيها الكرم والفتوة والشجاعة والمروءة، وهي بذلك وجه ظليل وإن قَفَر، ونهرٌ جارٍ وإنْ لم يجر فيه ماء، فقد جرت فيه السماحة، وتدفق فيه الوفاء، ولأمر أراده الله عزّ وجلّ، أراد أن يبعث من هذا البلد الطيب رسوله الكريم  إن الله عزّ وجلّ يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته وأكثر الناس حينما يتكلمون عن ذلك يقصرون الحديث على آباء الرسول وأجداده فيقولون: إنه خيار من خيار، وهذا حق لا شك فيه ولكني أمتد بالآية إلى أبعد ما يكون، أمتد بها إلى المكان وإلى الزمان، الله أعلم حيث يجعل رسالته في الحجاز، وأعلم حيث يجعل رسالته في هذا الزمان الذي طغى فيه الفسق فجاء محمد  ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
- أذكر أن الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني قد كتب كتاباً تحت عنوان "رحلتي إلى الحجاز" وكان قد حجّ قبل أن تأتي الطائرات وقبل أن تأتي السيارات في العشرينيات حينما كان الجمل وسيلة الحاجّ، قال هذا الرجل: لقد ركبت الجمل فكان معي عربي يقود الجمل، وجاء وقت الطعام وقلت له تفضل معي فقال: أكلت بالأمس، إن كلمة "أكلت بالأمس" رنَّت في أذن المازني رنين الرَّعد، ففتحت عقله على شيء كبير، قال: إن العربي الذي جاء من الحجاز ليفتح العالم هو الذي أكل بالأمس، إن محمداً  حينما اختار الصفوة من هؤلاء الذين خاضوا الصحراء وذهبوا إلى اليرموك كانوا لا يأكلون كثيراً، وكانت عندهم الصفات التي تحمل هذه الرسالة من محيط إلى محيط، ولذلك كان العربي أجدر الناس بحمل الرسالة، وكان هذا المكان هو أسمى مكان، والله عزّ وجلّ أعلم حيث يجعل رسالته، أبناء الفتوح كلهم من هذا المكان المثنّى بن حارثة، خالد بن الوليد، سعد بن أبي وقاص، ثم ننتقل عبر العصور: عقبة بن نافع، قتيبة بن مسلم، محمد بن القاسم الثقفي، موسى بن نصير..

أولئك آبائي فجئني بمثلهم                                        .  إذا جمعتنا يا جرير المجامع
                                        .                                                           
- وكلهم خيار من خيار، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
- على أني أذكر في جدة بالذات شيئاً عجيباً، كان أستاذي الكبير الدكتور عبد الكريم جرمانوس المستشرق الشهير ولا أقول مستشرقاً لأن كل من تشرَّف بالإسلام لا يُعتبر مستشرقاً وإن كان من أوروبا لأنه مادام قد حفظ القرآن، ومادام قد استنشق عبير النبوة، فهو عربي أصيل أو متعرب على أكثر تقدير، قال لي: إنني حين زرت جدة رأيت عجباً، دخلت بيت عالم جليل هو الشيخ محمد نصيف فشعرت وكأنني في بيتي، لا أطلب الطعام إلا وأجده أمامي، لا أطلب الشراب والكساء إلا وأجده طَوْع يدي، وأطلب مخطوطات لا أجدها في الأزهر ولا في أوروبا وأجدها عنده، إنَّ هذا الرجل قد أذهلني، وإنه تحفة عظيمة، وإنه نفحة من نفحات رسول الله.
- هذا الكلام الذي قاله لي أستاذي الكبير عبد الكريم جرمانوس، أستطيع أن أقوله عن أخي العزيز الأستاذ عبد المقصود حينما فتح هذا المكان لنا دون أن نعرف، وقد كان نصيف يقابل عبد الكريم جرمانوس وهو لا يعرفه كما حدثني، ولست أبادله ثناءاً، ولكن الحقيقة يجب أن تظهر، إننا نشيع المثالب دائماً ونخفي المحاسن وهذا غبن للأخلاق، علينا إذا رأينا محسَناً من المحاسن أن نشيد به لخلق الجيل، ولنضع المثال، ولكننا نشأنا على أن نُجسّم الهَنات وعلى أن نفضح السيئات.

- أما ما يقوم به ماجد كريم كمحمد نصيف في القديم أو كالأخ العزيز عبد المقصود في الحديث، هذه المكرمات لا بد أن تُسجَّل ولا بد أن تُدوَّن، والقدماء كانوا أحسن منا كثيراً وكثيراً في الكتب القديمة كالعِقد الفريد وعيون الأخبار قد حفِلت بأخبار ذوي المروءات، وسجلت ما كان عند معن بن زائدة وما كان عند حاتم الطائي وما كان عند عروة بن الورد وما كان عند يزيد بن المزْيَد وما كان عند هؤلاء، هنا في هذا العصر أناس كالراحلين ولكن يا للأسف لا نسجل شيئاً حتى نظن أن الرحلة قد انقطع بها المسير، ولكن الإسلام لا ينقطع وما وُجد الإسلام فقد وُجدت المروءات ووجدت الثروات، فأين المُسجِّلون وأين المؤلِّفون؟
- أماكن الحجاز لها عبَق كبير عند المسلمين جميعاً، ونحن نعلم أن كل قصيدة قيلت بل أكثر قصائد الشعر العربي القديم حتى في هذا العصر عند شوقي فيها ترنّم بأماكن الحجاز والناس يعدّون ذلك تقليداً، ويقولون إنه تقليد منهي عنه، والله أنا لا أميل إلى هذا، أميل إلى أنني وأنا على مشارف القرن الواحد والعشرين إذا تكلمت عن ذي سلم وإذا تكلمت عن العقيق وإذا تكلمت عن سلى لست أُقلد، إنني أحب هذه الأماكن بروحي وأود كمسلم أن أشمّ ترابها وأن أستنشق عبيرها، فإذا قلتها في قصائدي فأنا صادق، وعلينا أن ننظر إلى الأدب نظرة الواقعية الأخرى، علينا حينما نقرأ مثل هذه الأماكن أن لا نقول إنه تقليد أبداً نقول إنه إنسان مسلم يهتف وإنها روح تحنّ، وإنها قلوب تَئن، إذا سمعنا مثلاً قولُ يقابل قول عمر بن الفارض:

هل نـار ليلـى بـدت ليلاً بـذي سلـم                                       .  أم بارقٌ لاحَ في الظلماء فالعلم؟                                   .
أدوح نعمان هلاَّ نسمةً سحراً؟                                        .  وماء وجرة هلاَّ نهلة بفم
                                        .                                                           
- إذا سمعنا الحديث عن وجَرة وذي سَلَم وإضم لا بد أن نعتبر أن هذه الأماكن الحجازية لها في القلب رنين ولها في النفس ذكريات، ولا بد أن تعيش، ولا بد أن نقولها وإن قالوا مقلدون؟ أَحْبِب بالتقليد إذا كان فيه ذكر أماكن رسول الله.
- أضرب لكم مثلاً، عندنا شاعر كبير كالشريف الرضي قال قصائد معروفة بالحجازيات فجاء شاعر آخر مهضوم الحق اسمه "الابراردي" قال قصائد رنانة سماها النجديات، تقرأ النجديات فلا يرويها أحد، وتقرأ حجازيات الشريف فتطير بها كل مطار، لماذا كان هذا؟ لأن الشريف الرضي ذكر أماكن رسول الله، إذا قال، مع أنه في الغزل، إذا قال:

تحمل جيرانُنا عن منى                      .  وقالوا النَّقا بيننا موعدُ                           .
تنادَوا بأن التنائي غداً                      .  لـك السـوء مـن طالع يـا غـدُ                           .
يُباع فينشد كأس الغَبوق                      .  وقلبي يُضاع فلا يُنشد                           .
 
- بل إن له قصيدة مرقصة على منى لا أدري كيف قالها فقد مزج فيها الذكريات بالغزل الرائع، يقول:

إني عشقت على مِنىً                      .  لمياء يقتلني لماها                           .
راحت مع الغزلان قد                      .  لعبت بقلبي ما كفاها                           .
ترجو الثواب فمهجتي                      .  هذي القريحة من رماها                           .
شمس أقبِّلِ جيدَها                      .  يوم النَّوى وأُجِلّ فاها                           .
وأذود قلباً ظامئاً                      .  لو قيل وِرْدك ماعداها                           .
يا سرحةً بالقاع لم                      .  يبلل بغير دمي ثراها                           .
                               ممنوعة لا ظلهما يدنو إليَّ ولا جناها         .
أكذا تذوب عليكُمُ                      .  نفسي وما بلغتْ مناها                           .
أين الوجوه وحبّها                      .  وأود لو أني فداها                           .
أمسي لها متطلعاً                      .  في الحاضرين ولا أراها                           .
                               واهاً ولولا أن يلوم اللائمون لقلتُ آها
 
- هذه نفحة من نفحات الحجازيات، ولو شئت أن أذكر كل ما أحفظه للشريف في هذا لامتدَّ بنا الوقت، ولكن حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.

- إن هذه الأماكن العظيمة رنَّت في الشعر العربي، وستظل ترن وسنظل نسمعها، ومهما قال الناقدون إنها تقليد فإنها والله تجديد، لأنها تهيج المشاعر وتُحبب الناس، إن الظرف الحجازي الذي جعل فقهاء الحجاز من أظرف الشعراء يجب أن يُسجل، عندنا عروة بن أذينة يقول شعراً لا يقوله أكثر الشعراء وهو صاحب القصيدة:

إن التي زَعمت فؤادك مَن لَها                                       .  خُلقت هواك كمـا خُلقـت هـوى لهـا                                   .
بيضاءُ باكرَها النَّعيم فصاغها                                        .  بلباقة فأدقها وأجلَّها
                                        .                                                           
- والقصيدة مشهورة ولكن له قصيدة أخرى غير مشهورة من رائع أغاني الحجازيات يقول فيها عن النساء المحرمات:

فولهن بالبيت العتيق لُبانة                                       .  والبيت يعرفهن لو يتكلم                                   .
لو كان حَيَّا قبلهن أوانساً                                        .  حيا الحطيم وجوههن وزمزم
                                        .                                                           
- إن هذه الأماكن المقدسة التي تُذكر في الشعر، إننا نحبها وإنها حجازية رائعة، وأنا أحرص على أن ننظر إلى المقدمات الطللية من هذه النظرة فإنها لا تزال تنفح بالوجدان ولا تزال تضيء للإنسان، الإنسان العربي المسلم.
- على أني فوجئت بأن أتحدث عن نفسي، ماذا عسى أن أقول؟ إن إخواني الذين تكلموا عني جعلوا الدرهم ديناراً؛ وجعلوا القيراط فداناً، فألبسوني ثوباً فضفاضاً، الأستاذ أبو مدين والأستاذ مصطفى، والأجلاّء الذين سمعتهم الآن أخشى بعد ذلك أن أتكلم عن نفسي فتذكرون قول أبي الطيب المتنبي:

كنا نظن ديارَه مملوءة                                        .  ذهباً فمات وكل دار بلقع( )                                        .                                                           
 
- على أني سآخذ من أخي مصطفى ما قال لأتكلم في ظلال ما قال، لأن أثقل الحديث حديث النفس، كلمة (أنا) أثقل من الرصاص وأسوأ من الحجارة، وكيف أقف في هذا الجمع المَهيب لأقول أنا، سأتكلم عن غيري في ظلال ما قال أخي مصطفى، أخي مصطفى ذكر من أساتذتي الدكتور أحمد أمين والأستاذ أحمد حسن الزيات والأستاذ محمد فريد وجدي.. أدور حول ما ذكر، وهو الذي رسم لي، فأقول: نعم إنني نشأت على أدب هؤلاء، تعلمت في الأزهر، أجل، كما يتعلم الناس جميعاً ولكن هواي الروحي كان مع الثلاثة الذين اختارهم أخي العزيز الدكتور مصطفى عبد الواحد، أولهم عندي وأجدرهم بالمحبة محمد فريد وجدي لا لشيء إلا لمواقف إنسانية رائعة رأيتها منه وأنا صغير فشُرِهت نفسي، وزاغ البصرُ مني.

- محمد فريد وجدي مؤلف دائرة المعارف، وصاحب ألف كتاب، وصاحب اللسان الطاهر النقي الذي يتعرض للملاحدة بلسان الملائكة، هذا الرجل المتواضع العظيم، أول مرة دخلت عليه في مكتبه وهو مدير في مجلة الأزهر هزَّني بشيء واحد، جلست أمامه فإذا به كلما يدخل الفَرَّاش عليه يقف ثم يجلس حين يذهب الفَراش، وتعجَّبت وقلت: إن الفَراش يؤدي دوره وهو خادم في المكتب، فسألته بسذاجة، لماذا تقوم للفَراش؟ قال: ولدي، أقوم للناس أمامه ولا أقوم له؟ أين المساواة؟ هذا الفعل البسيط ترك في نفسي تأثيراً كبيراً عن الرجل فأحببته حُباً كثيراً، وأخذت أقرأ مقالاته، لأن هناك فرقاً بعيداً بين أن تقرأ لإنسان تحبه وإنسان لا تحبه، أنت إذا قرأت لإنسان تحبه تعيش معه بوجدانك، وتعيش معه بروحك وأنفاسك.

- من الروائع أننا الآن إذا كتب أحدنا مقالاً ذهب يتطلب أجره ولو كان في الإسلام، وأخذ يطبعه عدة طبعات ويطلب الأجر، أما أنا فوقفت لمحمد فريد وجدي على خارقة عجيبة جداً، كان شخص في بلدة حقيرة صغيرة أقصد، آسف على كلمة حقيرة، في بلدة تسمى (إخطاب) مسيحي اسمه "تادرس مسيحة" يرسل لمحمد فريد وجدي خطابات يناقشه فيها، ويُفضِّل المسيح على محمد، ولو كان محمد فريد كأيِّ كاتب عظيم لما كان يعبأ بهذه الخطابات، ففي مرة كنت أزور هذه البلدة، فإذا بهذا الرجل البسيط يقول لي: أنا أراسل فريد وجدي وعندي له عشرين مقالة، عجبت هل يجد فريد وجدي من فراغه ومن روحه ومن إحساسه أن يكتب هذه المقالات التي لو جُمعت لصارت كتاباً؟ أخذت أقرأ وأنا أندهش، ثم ذهبت توّاً إلى الأستاذ فريد وجدي، وقلت له: لقد كنتُ في "إخطاب" وقرأت رسائلك العلمية الضافية، فلماذا لا تنشرها على الناس بدلاً من أن تبعثها بالبريد لشخص واحد؟ قال لي: يا بني، إنه يُناقشني ويفضل المسيحية ويتكلم فيها ويبخس في الإسلام، فلو تركته لاعتقد ذلك، ولو أجبته ونشرت المقال لأوجدتُ فتنة بين المسيحين والمسلمين، فوقفت في حرج، أأسكت عنه؟ ذلك لا يرضي ضميري، أم أنشر المقالات؟ ذلك لا يرضي ضميري أيضاً فجعلت أرد عليه وجعل يرد علي وقد أكون مريضاً، ولا بد من الرد، لأن الرسالة رسالة الإسلام، هذه الكلمة "لأن الرسالة رسالة الإسلام" جعلتني أتخذه مثلاً أعلى.

- فإذا انتقلنا إلى الأستاذين الكريمين: أحمد أمين وأحمد حسن الزيات، فقد سعدت بمعرفتهما ولكني كنت أخاف لقاء الأستاذ أحمد أمين جداً لأني أشعر حين أقدم عليه كأني أقدم على عرين الأسد، بينما كنت أحب "الزيات" جداً وأقدم عليه فرِحاً مسروراً، أتدرون لماذا؟ لأن الأستاذ أحمد أمين كنت إذا قدمت له مقالاً قال لك: اجلس، ثم جعلك تقرأ المقال أمامه، ثم أخذ يناقشك وكأنك طالب عنده، ثم أخذ يُبكتك على الخطأ، وهذا حق له، وهو بذلك أستاذ مصلح، أما الأستاذ الزيات فأنيس يأخذ المقال ويضعه في الدُّرج، ثم بعد ذلك تُفاجأ بنشر المقال ولا ينظر إليك ولا يوجهك في شيء، لذلك كان مَثل مجلس الأستاذ أحمد أمين كمثل من يأكل "جوز الهند" يتعب في كسره ويحطم نفسه حتى يشرب الماء وهو فيتامين جيد، أما الأستاذ الزيات فكأنه يأكل برتقالاً أو "يوسف أفندي" فيأكله على الجميع ثم بعد ذلك تأتي الفائدة، ولكنه دون فائدة الأستاذ أحمد أمين.

- أذكر لكم شيئاً عجيباً سمعته عنه: كتبت مرة مقالاً عن جرجي زيدان، ثم بعثت به إلى الأستاذ أحمد أمين لينشره فمضى شهر وشهر، وقلت: إنَّ الرجل رفض المقال، وغرق في الطوفان حيث لا يُصاحَبُ غريق لأني كنت في الرابعة في كلية اللغة، فلم أشأ أن أكلمه عنه كيلا يمتحنني، وكيلا يقول لي: أحضر المقال ويناقشني فيه، ثم دخلت وأنا أتجاهل المقال فقال لي: رجب رجب تعال، قلت: نعم، قال: مقالك عن جرجي زيدان أعطيته للمؤرخ عبد الحميد العبّادي عميد كلية الآداب وسيأتي هنا يوم الخميس ليناقشك في بعض مواقفه، أنا فرحت لأني سأشرف بلقاء عبد الحميد العبّادي، وإذا قال لي عبد الحميد العبّادي وأنا طويلب صغير: إن مقالك ضعيف فأنا الكاسب، فرحت كثيراً، وكنت أشوق إلى لقاء عبد الحميد العبّادي، فلما جاء يوم الخميس ذهبت إليه فوجدت الرجل مبتسماً وقوراً وناداني بهمس، وقال: أهذا مقالك؟ قلت: نعم، قال: أرجو أن تُضيف إليه سطراً، قلت: أضيف إليه سطراً؟ أضفه أنت، قال: كيف وهو سيظهر باسمك لا بد أن أناقشك في السطر الذي أضيفه.

- كنت أتكلمُ عن جرجي زيدان كمؤرخ فوازنتُ بينه وبين الأستاذ محمد الخضري فقلت: إن جرجي زيدان كان يُطل على العالم بعدة علوم فلم يتكلم عن الخلفاء فقط، ولا عن القضاء فقط، ولكن تكلم عن مظاهر التمدن، أما محمد الخضري فقد تكلم عن الخلفاء ولم يوفِّ التمدن حقه، فكتاب جرجي زيدان أقوى من كتاب الشيخ الخضري، قال الأستاذ عبد الحميد عبّادي هنا أكتب ما يأتي: هذا السطر الذي حرص أن أكتبه ومنع نشر المقال حتى آتي، قال: أكتب ما يأتي: وليس ذلك لعجز من الخضري، ولكن الخضري كان مُقيّداً بمنهج في الجامعة وبمنهج في مدرسة القضاء، فهو يتتبع في التأليف المنهج، ولو تُرك له الخيار لزاد وأفاض، وأما جرجي زيدان فكان مطلقاً، وليس المطلق كالمقيد.
- هذا إنصاف عظيم من هؤلاء الأماثل ومن هؤلاء الأفاضل، جعلني أحترم الكلمة، وجعلني أعلم أني لا أضيف شيئاً إلى غير صاحبه، ماذا كان يهمُّني لو زاد هذا السطر من عنده، أنا سأوافق عليه، ولكن حرمة الروَّاد وحُرمة أساتذة الجيل الماضي هي التي شجَّعت البقية الباقية من هذا الجيل، وللأسف هذه البقية ذهبت سلفاً دون خلف.
- بعد ذلك واصلت السير وتفضَّل الإخوان فتحدَّثوا عني، ولكن لا أدري ماذا أقول بعد ذلك، الأستاذ الكبير مصطفى أشار إلى أني شاعر وإلى أنَّ لي قصيدة قلتها في ضوء المقابر وسأقولها الآن، لأن معي الديوان، وهو الذي اختارها، فإذا كانت ضعيفة فسأشكوه، وإذا كانت قوية فالحمد لله.. الأجر له دائماً لأنه رجل فاضل وأسبغ عليَّ وجعل من القط أسداً.. أي والله.
- القصيدة التي أشار إليها أخي العزيز الأستاذ الدكتور مصطفى عبد الواحد وهو قمة من قمم مكارم الأخلاق وادّعى أنني كنت أوجهه، أبداً، نحن فرسا رِهان، كان يوجهني كما أوجهه، كنا يدَين تتعاقدان وإن كان هو سبق في التأليف، سبقني لأنه محقق ومؤلف ودارس، حيّاه الله وأنسأَ في عمره ليخدم الناس.
- القصيدة التي قلتها، أنا لا أتعمد أن أقول الشعر، ولكن ظروفاً فُجائية تأتي إليّ فتجعلني أقول، عندنا في المنصورة طريق جميل تذهب إليه شمالاً حيث المطرية، يمتد حول ستين كيلومتراً ففي يوم من الأيام بعد العشاء ركبت السيارة وذهبت في هذا الطريق إلى بلدي، وهي قرية صغيرة تسمى قرية "الكفر الجديد" فبعد أن جاوزت المنصورة بكيلو متر واحد وجدت حديقة عظيمة جداً كانت تُعرف بحديقة آل نور وكلها زهور ورياحين وقد سطع عليها البدر فكساها جلالاً، خُيل إلي أن أشعة السماء قد امتزجت بأشعة الورد، وأن هناك خيوطاً تكون سلالم فلو ركبتُ إليها لطرت إلى السماء، فوقفت مدْهوشاً وقلت لسائق السيارة: بربك إني أريد أن أشرب الماء، وما بي شُرب الماء، ولكن رؤية الضياء، فنزلت وأخذت أتملى هذا المنظر الجميل وأنا أرى أن البدر أجملُ مظاهر الطبيعة وأحسن شيء في الوجود.
- ثم بعد ذلك انتقلت إلى قرية أخرى تسمى: "سلامون القماش"، ونظرت فوجدت مقبرة هائلة والبدر واقف في أفقها شاحب ضئيل، تغيَّر منظر البدر أمامي بعد أن كان ملِكاً مُتوّجاً أصبح في هذه المقبرة كأنه دامس، ووجهه كاسف، والبدر هو البدر والليلة هي الليلة والساعة هي الساعة، أخذني شعور مُفاجىء بين الانبساط الزائد في النظرة الأولى، والانقباض المستفيض في النظرة الثانية، وقلت هي إذن ليست مسألة بدر ولكنها مسألة الإنسان، الإنسان حين كان سعيداً أشرق البدر وحين كان غير سعيد فقد لحق البدر بالكسوف، ظلت هذه المعاني تختلج في نفسي، وأنا حين تختلج المعاني أخرج ورقة قد تكون "صحيفة" وقد تكون قديمة وأكتب على هامشها، فما وصلت إلى بيتي حتى قلت هذه القصيدة "البدر في سماء مقبرة" فإن تفضَّلتم بسماعها فلكم الشكر الجزيل والذي اختارها هو أخي الكبير الدكتور مصطفى، لأخرج من عهدتها:
"البدر في سماء مقبرة":

أَنِرْ ظلمة الأجداث إن كنت تقدر                                       .  فما غيرها ليل يُهاب ويُحذر                                   .
أنرها تكن بدراً نهيم بحبه                                        .  وإلا فما جدوى لنورك تُذكر                                        .                              &nb

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين



التعليقات