تكريم الإسلام للمسنين

بقلم الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة
           خطيب المسجد الأقصى المبارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق


الحمد لله، له أسلمت، وبه آمنت، وعليه توكلت، والصلاة والسلام على سيدنا محمد
– صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد ،،،
وافق يوم الجمعة الماضي ذكرى اليوم الدولي للمسنين والتي تأتي في الأول من شهر
 أكتوبر من كل عام ، ونحن في كل مناسبة نبين وجهة نظر الإسلام كي يكون المؤمن على
 بينة من أمره .
 إن الحضارة الإسلامية تزخر بالكثير من الأحكام الشرعية التي كفلت رعاية المسنين، وضمنت حقوقهم ، وبالغت في تكريمهم ، انطلاقاً من مبدأ تكريم الإسلام للإنسان ، سواء كان طفلاً أو مراهقاً ، أو شاباً أو كهلاً أو شيخاً هرماً ، وذكراً كان أو أنثى لقوله تعالى  : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(1)  .
ومن هنا كان الإسلام بتشريعاته الكريمة  أول نظام اجتماعي عادل، نسق بين معاني الرعاية العاطفية ومظاهر العدالة الاجتماعية الحقيقية في تكريم المسنين وتحديد حقوقهم وواجباتهم ، وتمكينهم من تأدية وظيفتهم وممارسة نشاطهم في جميع الميادين على أكمل وجه .
ومن المعلوم أن مرحلة الشيخوخة مرحلة طبيعية من مراحل حياة الإنسان ، حيث أشار القرآن الكريم إليها في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2).
كما ذكر القرآن الكريم الشيخوخة في مناسبات شتى وخصوصاً مع رسل الله الكرام- عليهم الصلاة والسلام-  ، كما في قصة إبراهيم – عليه الصلاة والسلام- ، الذي ذكر الله تعالى على لسانه {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} (3 ) .
لقد أرسى الإسلام القواعد السليمة لبناء المجتمع السليم، وكان الناس في دولة الإسلام يعيشون حياة الأمن والطمأنينة صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء .
ومن هذه القواعد التي أرساها الإسلام رعاية المسنين ، وكبار السن، حيث دعانا للاهتمام بهم، والعطف عليهم ورعايتهم في كل وقت وفي كل حين، لأن الإنسان إذا بلغ من الكبر عتياً ضعف  واحتاج إلى غيره ، وقد عبر عن ذلك نبي الله زكريا- عليه الصلاة والسلام-  حينما قال :   {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (4) ،  ومن المعلوم أن الإسلام قد سبق العالم المتمدين في الاهتمام بكبار السن واحترامهم بقرون طويلة، فقد وضع ديننا الإسلامي الحنيف قبل خمسة عشر قرناً من الزمان دستوراً عظيماً لرعاية المسنين، سواء كان المسن أباً أو أماً أو صديقاً أو جاراً ... حيث أوصانا الله سبحانه وتعالى بكل هؤلاء. وقد تعرض القرآن الكريم  للكبر في السن في آيات كثيرة، ولنا في الآية الكريمة كل العظة والعبرة والنصح عندما قال تعالى في كتابه موجهاً القول للأبناء: "  {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}(5)  .
فالله سبحانه وتعالى أوصانا بأن نتحسس طريقنا إلى راحتهم النفسية، ومنعنا من أن نقول لهما أف أو ننهرهما، فما بالنا بما يجب أن نقدمه لهما من رعاية صحية في شيخوختهما ومن تلبية لمطالبهما لإرضائهما حتى آخر يوم في حياتهما .
وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة لتؤكد على عدة معان تدعو جميعها لإكرام كبير السن فقد روي أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال : "ما أكرم شاب شيخاً لسنه، إلا قيَّض الله له من يكرمه عند سنِّه" ( 6)،  وقال أيضاً: "ليس منا من لم يُجلّ كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه" (7 ).
فالأحاديث السابقة تدل على وجوب رعاية المسنين واحترامهم .
ونعود إلى بر الوالدين في الحديث الشريف عندما أتى رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذنه في الجهاد فقال : " أحيٌ والداك ؟ : قال : نعم قال : " ففيهما فجاهد"  (8 ).
فالإسلام جعل بر الوالدين في مقام الجهاد ولذلك يقول – صلى الله عليه وسلم - : "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم" ( 9 ) ، وحتى الأم الكافرة يوصي بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فعن أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنهما -  قالت:  قدمتْ علىَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، فاستفتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  قلت: قدمتْ علىّ أمي ّوهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم صِلي أمك"(10)، وراغبة تعني أنها طامعة فيما عندها تسألها الإحسان إليها، وفي حديث آخر "راغمة" أي كارهة للإسلام، ومع ذلك أمر الرسول -عليه  الصلاة و السلام- بوصلها.
ولم يكتف الإسلام بأن يوصي بالآباء فقط بل أوصى بأخوة الآباء وأصدقائه حيث قال- عليه الصلاة و السلام-: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدّ أبيه بعد أن يولى" (11 ) ، كما وأن بر الوالدين سبب من أسباب الخير والنجاة في الدنيا قبل الآخرة حيث إنه ينفع صاحبه في ساعة الضيق والشدة.
إن رعاية الشيخوخة ليست قاصرة على الأولاد ، بل هي من الآداب الإسلامية والفروض الاجتماعية على كل مسلم ، وذلك باحترام الشيخ الكبير ،   حيث يجب احترام الشيوخ والمسنين ، لقوله – عليه الصلاة والسلام - : ( إن من إجلال الله تعالى : إكرام ذي الشيبة المسلم ) ( 12). فالإسلام مبني منذ البداية على تكريم المسن ورعاية حقوقه ومن تكريم الإسلام له طاعته وتنفيذ أوامره مالم تكن مخالفة للشرع حيث إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإذا رأيت إنساناً ضعيفاً يحتاج إلى مساعدة فساعده، وإذا شاهدت مكفوفاً فخذ بيده إلى الطريق وارشده إلى موضعه، وابتعد به عن مواطن الخطر، وإذا كنت في سيارة عامة ورأيت رجلاً مسناً أو امراة كبيرة واقفة فقم واجلسها مكانك فهذا من نوع الاحترام والتقدير فكما تدين تدان ، حتى في كلامك مع المسنين يجب أن تكون مؤدباً فقد روي أنه لما جاء الوليد بن عتبة ليفاوض الرسول وأخذ يعرض عليه العروض لعله يتنازل عن دعوته، قال له الرسول-صلى الله عليه وسلم- هل انتهيت ياعم؟ احتراماً لكبر سنه فقد كرم شيخوخته رغم أنه كافر .
هذا على صعيد الإنسان، أما على صعيد الدولة أو الحكم فقد حرم الإسلام قتل الشيوخ والأطفال في الحروب واعتبر قتلهما خروجاً عن الإسلام،حتى إذا كان الشيخ "ذمياً" وكبر في السن، تسقط عنه الجزية وينفق عليه من بيت المال، وفي التاريخ الإسلامي أمثلة عديدة على ذلك.
            وإنه لشيء جميل أن نرى في بلادنا العربية والإسلامية عدة مؤسسات تهتم بالشيوخ والمسنين.
وحتى تحل مشكلة المسنين حلاً جذرياً صحيحاً فيجب على الأبناء احترام آبائهم وأمهاتهم، وأن يسهروا على راحتهم وأن يتولوا خدمتهم وتنفيذ طلباتهم وذلك جزاء لهما على ما قدموه لهم من خير ومساعدة فالأسرة هي الوسط الطبيعي الذي يحقق الرعاية الإنسانية الصحيحة للمسنين بالصورة التي تحددها لنا مباديء ديننا الحنيف .
كما ويجب علينا جميعاً أن نتعاون في مساعدة المسنين الفقراء الذين لا عائل لهم وأن نقوم بإنشاء البيوت لهم والعمل على نشرها، وتوفير فريق عمل مكون من طبيب وممرضة وأخصائية اجتماعية للمرور على كبار السن في منازلهم لرعايتهم صحياً ونفسياً .
ولعل الله يوفقنا كي  نصل إلى ما يرضيه من حلول جذرية لمشكلات المسنين لنرد لهم ما أعطوا في كل قطاع ومجال ،فما زال حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكرر على مسامعي "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" .  
 وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش :


1-سورة الإسراء الآية (70)                               2- سورة غافر   (67)                            3-سورة إبراهيم الآية (39)
4-سورة مريم الآية(4)                                       5-سورة الإسراء الآية (23)               6- أخرجه الترمذي                           7- أخرجه أحمد                                                     8- أخرجه مسلم                                  9- أخرجه الحاكم             
10-أخرجه الشيخان                                         11-أخرجه مسلم                                12- أخرجه أبو داود 23

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين