تَقسيمُ أَفعالِ النَّبيِّ ﷺ وَما يُستَفاد مِنها مِن أَحكامٍ تَكليفِيَّة لَنا

قال شيخنا العلامة المحقق الشيخ محمد عوامة ـ حفظه الله ورعاه ـ في رسالته القيمة المحررة النافعة ‏«‏حجية أفعال رسول صلى الله عليه وآله وسلم أصوليًا وحديثيًا وفيه عصمته صلى الله عليه وآله وسلم من الخطأ والخطيئة‏»:

إتمامًا لعرض النظرة الأصولية إلى حجية أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأعرضها بإيجاز، مع تعلقها بأحكام المكلفين.

وقد ذكرها المتقدمون خمسة أقسام، وزاد عليها بعضهم فجعلها ستة، وسبعة، وأوصلها الدكتور محمد سليمان الأشقر ـ المتوفى 27/11/1430 ـ رحمه الله تعالى، إلى عشرة، في أطروحته للدكتوراة «أفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودلالتها الشرعية» 1: ٢١٦، وسردها، واستيفاء للبحث آخذ بتقسيماته وتفريعاته فأقول:

تنحصر أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم في عشرة أقسام:

١ ـ الفعل الجِبِلّي.

٢ ـ الفعل العادي.

٣ ـ الفعل الدنيوي.

٤ ـ الفعل الذي صدر منه صلى الله عليه وآله وسلم على أنه معجزة من معجزاته.

٥ ـ ما فعله على أنه خَصِيصة من خصائصه عليه الصلاة والسلام.

٦ ـ ما فعله بيانًا لأمر قرآني مجمل.

٧ ـ ما فعله امتثالاً لأوامر الله التطبيقية.

٨ ـ أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم مع غيره وتتعدى شخصَه الكريم.

٩ ـ فعله المجرد، وهو على حالين: إما معلوم الصفة. وإما مجهول الصفة.

١٠ ـ ما فعله منتظرًا لبيان الوحي.

وهذه أحكام إجمالية لهذه الأقسام العشرة، وأمشي فيها ـ غالبًا ـ على وفق كلام الأصوليين: أما الأقسام الخمسة الأولى: الجبلية، والعادية، والدنيوية، والخوارق، والخصائص: فيغلب عليها أن لا يُستفاد منها وجوبٌ علينا ولا ندب باتباعه صلى الله عليه وآله وسلم فيها، هذا هو الحكم الإجمالي عليها.

أما التفصيل: أ ـ فالذي يتعلق بالقسم الأول ـ وهو الجِبِلّي ـ أن الأفعال الجبلية تنقسم إلى أفعال اضطرارية، واختيارية.

فالاضطرارية: كالذي يظهر على الوجه في حال السرور والغضب والألم، فهذا لا يستفاد منه حكم.

والاختيارية: تنقسم إلى ما هو جبليّ صِرْف، وإلى جبلّي يتعلق بعبادة ما، فالجبلّي الصِّرْف: كأكل طعام معين: عسل وتمر ولحم، وسَير في طريق معيَّن، ولبس ثياب معيَّنة، كالرداء والقَباء من قطن وصوف: فهذا يدل على الإباحة إجماعًا، لكن ينقض دعوى الإجماع ما نقله الباقلاني عن بعضهم ـ ولم يسمه ـ أن التأسي مندوب، ونقله الغزالي عن بعض المحدِّثين، ومال إليه أبو شامة والتاج السبكي.

وبهذه الملاحظة يقترب هذا الفريق من الأصوليين من حيث النتيجة، من المحدثين في توجُّههم نحو حجية الأفعال النبوية، ويبقى الفرق بينهما أن المحدثين يقولون عن أصل الفعل إنه مطلوب مكلَّف به ولو على أدنى درجات الطلب، وهو الندب.

قال شيخنا العلامة الحافظ الكبير والأصولي الكبير الشيخ عبد الله الصديق الغماري رحمه الله في جزئه «النفحة الإلهية في الصلاة على خير البرية» عن التزام الأولياء الكبار بالعمل بالسنة، ص: ١٤٧: «لمزيد تعلُّقهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشدة تأسّيهم به في كل ما يصدر عنه من قول وعمل في العبادات والعادات، لعلمهم أن الله تعالى لا يختار لنبيّه إلا أكمل الحالات، وأن كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم يقع من الله بعين الرضا والقبول، وقد صرح علماء الأصول: أن من فعل أمرًا عاديًا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله كأكلةٍ أو لبسة معينة، وقصد بفعله الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم كان مثابًا من هذه الجهة، واعتُبر آتيًا بالسنة.

وممن كان على هذا الحال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كان شديد التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل شيء، حتى إنه ـ وهو مسافر في بعض المرات ـ نزل في مكان من الطريق ليس محلاً للنزول، فسأل المسافرون معه نافعًا مولاه عن سبب نزوله غير المعهود؟ فأخبرهم بأنه يروي أنه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره ونزل في هذا المكان، وقضى حاجته، فهو يحب أن يفعل مثله». انتهى.

وأما الجبلي المتصل بعبادة قبلها، أو بعدها، أو أثناءها، أو كان وسيلة لها: فالذي قبلها: كاضطجاعه بين سنة الفجر وفريضته، والذي بعدها: كالتفاته بعد الصلاة عن يمينه أو يساره، والذي في أثنائها: كجلسة الاستراحة، وما كان وسيلة لها: كدخوله صلى الله عليه وآله وسلم مكةَ من طريق كَداء، وخروجه من طريق كُدي، ودخوله المسجدَ الحرام من باب من بني شيبة، وطوافه راكبًا. والأمثلة كثيرة، واختلف فيها الفقهاء كثيرًا.

ب ـ وأما ما يتعلق بالقسم الثاني ـ وهو الأفعال العادية ـ فما ورد منها عنه عليه الصلاة والسلام فإنه محمول على الإباحة، كفعله ما اعتاد عليه قومه من مطعمٍ ومشرب وملبس، واتخاذ وسائل للطعام والشراب واللباس، وعاداتٍ اجتماعية في الأفراح والأحزان، نعم، إذا اتصل بذلك قرينة شرعية فيعطَى الفعل ما يناسبه من الحكم الشرعي حينئذ.

وذكروا مثال ذلك: أكلَ الضب، فقد عافته نفسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، وأُكِل على مائدته، أَكَله خالد رضي الله عنه، وإقرارُه لخالد دليل على إباحة فعله، وذكروا توجيهَ الميت في القبر إلى القبلة، وأن هذا يفيد الندب، لارتباطه بالشرع، بقرينة غير قولية، كذا قيل.

لكن ورد نهي عن أكل الضب، رواه أبو داود (٣٧٩٠) عن عبد الرحمن بن شِبل رضي الله عنه بإسناد حسن، قاله الحافظ في «الفتح» ٩: ٦٦٥، (٥٥٣٧)، وكذلك توجيه الميت في القبر إلى القبلة، جاء في شأنه: أن البيت الحرام قبلة المسلمين أحياء وأمواتًا، فمن هنا نُدب توجيه الميت إلى القبلة، واللفظ النبوي فيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الكبائر فقال: «هنَّ تسع»، ومنها: «استحلالُ البيتِ الحرام قبلتِكم أحياء وأمواتًا»، رواه أبو داود (٢٨٦٨)، والنسائي (٣٤٧٥)، والحاكم ١: ٥٩، (١٩٧)، ٤: ٢٥٩ـ٢٦٠، (٧٦٦٦)، وصححه. ونرى أن هذا المثال والذي قبله قد استُدرك عليهما دليل من السنة النبوية، وهذا مما يَستدعي التأنيَ واستيعاب البحث في الأمثلة.

ولا أحب أن أنتقل إلى الحديث عن القسم الثالث قبل أن أنبِّه إلى ملحظ مهم، ذلك أن قولهم: إن اتِّباعنا في الأمور العادية من أموره صلى الله عليه وآله وسلم مباح لنا: قد ينتج عنه قول غير سائغ شرعًا، ذلك أنه يوهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان خاضعًا لعادات قومه، فهو تابع غير متبوع، وهذا ما جرّأ بعض من أدركناه من طلبة العلم أن يقول: لو أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان في زماننا للبس البدلة الإفرنجية، ولوضع في رقبته تلك العقدة!! فمحمد صلوات الله وسلاماته عليه تابع غير متبوع!! مع أنه كَمْ وكَمْ وكَمْ غيَّر صلى الله عليه وآله وسلم من عادات، وأبطل من أعراف!!

وجرَّأ فضيلة الشيخ الكبير محمد أبو زهرة رحمه الله وغفر له: أن يختار القول في كتابه «أصول الفقه» ص: ١٠٦، عن إعفاء اللحية «إنها عادة لا عبادة»!! إذن فأين قوله صلى الله عليه وآله وسلم في إعفاء اللحية: «خالفوا المجوس»؟ و «خالفوا المشركين»؟؟

وفي هذا من النكارة ما لا يخفى(1).

والذي ينبغي أن يقال هنا: إن عادات السادات، هي سادات العادات، ولا ريب أن الأئمة المحدثين قد ملؤوا كتبهم من رواية أحواله صلى الله عليه وآله وسلم الجِبِلية والعادية والدنيوية، لأن نظراتهم إلى الحال النبوية أنها اختيار واصطفاء له من الله تعالى.

جـ ـ أما القسم الثالث ـ وهو الأفعال الدنيوية ـ، فالمراد به: ما فيه جلب نفع أو دفع ضرّ عن الإنسان في بدنه أو ماله، أو عن العامة، كالذي ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الطب العلاجي والوقائي(2)، والتدابير الحربية والإدارية.

والتوجّه الأصولي في نظرته نحو هذه الأفعال أنها للإباحة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم كغيره من الناس فيما يفعله أو يجتهد فيه، لكن الحال المعهودة عن السلف من صحابة وتابعين، وتوجّه الأئمة المحدثين يأبى ذلك، ويجعله للندب، ومهما وجَّه إليه من ملاحظات من منطلق الأصوليين فإن للمحدثين أجوبة عنها، والله أعلم.

د ـ أما القسم الرابع ـ وهو الخوارق والمعجزات النبوية ـ: فلا دخل لنا فيها.

ه‍ ـ أما القسم الخامس ـ وهو الخصائص النبوية ـ: فقد قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام في حقّه عليه الصلاة والسلام:

ـ واجب عليه، كقيام الليل، وتخييره نسائه رضي الله عنهن في المقام عنده.

ـ ومحرَّم عليه فعله، كتبدُّل أزواجه.

ـ ومباح له، كالزيادة على أربع زوجات.

وهذا المباح له: أحكامه في حقنا على ثلاثة أنحاء:

ـ حرام علينا فعله، وهو مباح له، كالزيادة على أربع زوجات.

ـ ومكروه لنا فعله، كالقضاء في حال الغضب، وهو صلى الله عليه وآله وسلم معصوم فيه.

ـ وواجب علينا، كالقَسْم بين الزوجات.

و ـ أما القسم السادس من أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم: الفعل البياني، فهو يختلف عن الفعل الامتثالي، وبعضهم يجعلهما واحدًا.

أما البياني: فهو ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم بيانًا لمجمل في القرآن الكريم، وهو الذي تكفَّلت به السنة النبوية، قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44].

وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث مالك بن الحوَيْرث عند البخاري (٦٣١): «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وحديث جابر عند مسلم 2: 943، (310): «لِتأخُذوا عني مناسككم»، فإقامته للصلاة وأداؤه لمناسك الحج بيان لقوله تعالى: ﴿وَأَقيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: ٤٣]، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطاعَ إِلَيهِ سَبيلًا} [آل عمران: ٩٧]. ومن الفعل البياني: تعليمه عمار بن ياسر التيمم.

وقد أثار الدكتور محمد الأشقر رحمه الله بحثًا أصوليًا طويلاً حول الاستدلال بهذين الحديثين في كتابه «أفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم» 1: 293ـ301، فكتب ثماني صفحات، قال في آخرها: «والصواب ـ إن شاء الله ـ ما ذكرناه من أن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم فيهما ـ في الصلاة والحج ـ ليست مميِّزة الواجبَ من المندوب، إلا فعلاً خاصًا عليه دلالةٌ خاصة أنه بيان لذلك، والله أعلم».

قلت: أشار إليه من المتقدمين الجصاص في «أصوله» 3: 232، ولم يبتُّ فيه بقول.

وأقول أيضًا: إن ممن روى هذا الحديثَ ابنَ حبان في «صحيحه» (١٦٥٨) ـ من «الإحسان» ـ وقال عقبه: «قوله صلى الله عليه وآله وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلي»: لفظةُ أمرٍ تشتمل على كل شيء كان يستعمله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته، فما كان من تلك الأشياء خصّه الإجماع أو الخبر بالنَّفْل، فهو لا حرج على تاركه في صلاته، وما لم يخصُّه الإجماع أو الخبر بالنفل، فهو أمر حتم على المخاطبين كافة، لا يجوز تركه بحال».

وفي هذا النقل عبرة من جانبين، أولهما: أن نبحث عن كلام علمائنا السابقين في مشكلاتنا، ثانيهما: أن السنة النبوية وحي بيانيّ، فلا بدّ أن يكون فيها البيان عما فيها من مجملات. ثم، إن هذا الفعل النبوي البياني: إن كان بيانًا لحكم ثابت في الكتاب الكريم واجب، فالفعل البياني واجب علينا فعله، وإن كان بيانًا لمندوب فمندوب في حقنا، وإن كان مباحًا فهو مباح في حقنا، وهذا المباح: هو فعلٌ مباح في أصله لا أجر فيه، لكن حينما نفعله اتباعًا واقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن منطلق أنه صلى الله عليه وآله وسلم يكون دائمًا على الحال الأكمل لاختيار الله له، فإنّا على أجرٍ عظيم إن شاء الله.

ز ـ والقسم السابع، هو الفعل الامتثالي، وهو كل فعل تكليفي يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم امتثالاً لأمر ربه، ولا يدخل تحت الخصائص النبوية، ولا تحت الأفعال البيانية لمجمل أو مشكل في بعض الآيات الكريمة.

وحكم هذه الأفعال الامتثالية في حقنا كالأفعال البيانية: إن كانت امتثالاً لأمر واجب فهو في حقنا واجب، وكذلك المندوب، وإن كان تركُه صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الشيء لحرمته، فتركه واجب علينا وحرام فعله، وهكذا أمر الكراهة.

ح ـ القسم الثامن ـ وهو فعله صلى الله عليه وآله وسلم المتعدي شخصه الكريم، وهو ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكمًا وقاضيًا، يفصل بين متخاصمين ويحكم على متعدٍّ ـ فالمعتمد: أنه يُتوقف فيه على معرفة السبب، فإن وضح لنا السبب الذي فعله من أجله، كان لنا أن نفعل مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب، وإلا فلا.

أما مثل فعله مع ابن عباس حين أخذ بأُذُنه من على يساره إلى يمينه: فقيل هذا واجب علينا أن نفعل مثله مع مثله، وهو مذهب ابن حزم ورواية الحنابلة(3)، وقيل: للاستحباب، وهو مذهب الأئمة الآخرين، ولو كان للوجوب لأمره صلى الله عليه وآله وسلم باستئناف الصلاة.

ط ـ القسم التاسع ـ وتحته أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم المجرَّدة عن وصف من الأوصاف السابقة، فهاهنا احتمالان:

ـ أن نعلم بدليل عندنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم فعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، فهذا يسمى فعلاً معلوم الصفة.

ـ أن لا يقوم عندنا دليل على ذلك، فهذا يسمى فعلاً مجهول الصفة.

1 ـ أما معلوم الصفة: فقد تشعبت أقوال العلماء في الحكم علينا، ماذا يكون موقفنا من الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم، هل يجب علينا أن نفعل فعله على وفق ما فعل، من الواجب والمندوب والمباح، أو ماذا؟ فبلغت سبعة أقوال، أقتصر على قول الجمهور منها، وهو: أن ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل الوجوب فهو واجب علينا، وما فعله على سبيل الندب فهو مندوب لنا، وهكذا القول في المباح، وتعلّل غيرهم بعلل، منها: احتمال كونه صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا وهو من خصائصه، أو أنه زلة، أو معصية!! وما شابه هذه التعللات الضعيفة.

2 ـ وأما مجهول الصفة: أي ليس عندنا دليل على معرفة الوجه الذي فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِعْله عليه من وجوب وندب وإباحة: فهاهنا ثلاث ملحوظات:

1 ـ هل نرى في فعله عليه الصلاة والسلام قصدًا لقربة مع الفعل.

2 ـ أو لا نرى معه قصد قربة! إنما هو فعل عادي محض.

3 ـ أو أن الأمر بين بين؟

فإن كان معنى القُربة واضحًا مع فعله عليه الصلاة والسلام: فللعلماء أربعة أقوال، أولها: الوجوب، ونُسب إلى الإمام مالك والحنابلة، وبعض الشافعية، كابن سُريج، وأبي سعيد الإصطخري.

ثانيهما: الندب، ونسب إلى الإمام الشافعي، وهو مختار إمام الحرمين في «البرهان» قال رحمه الله ١: ٣٢٤، (٤٠٠): «والرأي المختار عندنا أنه يقتضي أن يكون ما وقع منه مقصودًا قربةً محبوبًا مندوبًا إليه في حق الأمة» ودلّل على قوله، وهذا أقرب وأولى من الذي قبله والذي بعده.

ثالثها: الإباحة، وهذا بعيد، أمام كونه صلى الله عليه وآله وسلم قصد به التقرب إلى الله تعالى، ذلك نقول يفيد ـ في حقنا ـ الإباحة!

رابعها: التوقف عن العمل به، قال الرازي في «المحصول» 3: 230: «وهو المختار»، وتعلَّل رحمه الله باحتمالات ضعيفة أيضًا لردّ الأقوال السابقة.

٢ ـ وإن كان معنى القربة غيرَ واضح مع فعله صلى الله عليه وآله وسلم: فقد رجّحوا القول بالإباحة.

٣ ـ وإن ترددت علائم قصد القربة بين وجودها وعدمها في هذا الفعل: فاختلاف الأنظار حاصل بين ترجيح هذه القرائن أو تلك، وستختلف الأحكام حينئذ، لكن تتبُّع روايات الحديث غالبًا يحلُّ الإشكال.

ي ـ القسم العاشر، وهو الأخير، هو ما ذكره الزركشي في «البحر المحيط» ٤: ١٧٩ بقوله: «ما يفعله صلى الله عليه وآله وسلم لانتظار الوحي، كابتداء إحرامه صلى الله عليه وآله وسلم بالحج حيثُ أبهمه، منتظرًا للوحي، فقال بعض أصحابنا: إطلاق الإحرام أفضل من تعيينه، تأسّيًا، والصحيح خلافه، قال الإمام في «النهاية»: وهذا عندي هفوة ظاهرة، فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمول على انتظار الوحي قطعًا، فلا مساغ للاقتداء به في هذه الجهة». انتهى. أي: لأنه ليس لأحد بعده أن ينتظر الوحي.

قلت: وهذا الكلام يفتقر إلى بيان، أولاً: غالب الظن ـ والله أعلم ـ أن هذا مثال واحد ليس له ثَانٍ في الفقه، ثانيًا: معنى قوله: «أبهم صلى الله عليه وآله وسلم حجّه عند ابتداء إحرامه» أي: لم يعيِّن عليه الصلاة والسلام ما الذي أحرم به: متمتعًا، أو قارنًا، أو مفردًا، لأنه ينتظر الوحي ليعيّن له إحرامه، ولهذا قال بعض الشافعية: إطلاق الإحرام أفضل.

ونسبة هذا الفعل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءت في «مسند» الإمام الشافعي 1: 1372، (٩٦٠)، من ترتيبه للشيخ محمد عابد السندي، وهو في كتابه «الأم» 3: 389 ـ من الطبعة المحققة ـ، عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن جابر قال: «ما سمَّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلبيته حجًا قط ولا عمرة»، وأخذه الرافعي فقال: «رُوي عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحرم إحرامًا مبهمًا، وكان ينتظر الوحي في اختيار الوجوه الثلاثة، فنزل الوحي بأن مَن ساق الهدي فليجعله حجًا، ومن لم يَسُقْ فليجعله عمرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلحة قد ساقا الهدي».

وقد قال ابن الملقن في «البدر المنير» ١٥: ٢٤٥، عن هذا الحديث: «غريب»، فقال الحافظ في «التلخيص الحبير» ٢: ٢٤٧: «لا أصل له» ـ وهذا هو مراد ابن الملقن في قوله: «غريب» ـ، وقد ذكر ابن الملقن قبل ذلك ص: ٢٢٣، أسماء خمسة عشر صحابيًا رووا أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان قارنًا، ومنهم جابر نفسه رضي الله عنهم جميعًا.

وأصل كلام الرافعي هو لإمام الحرمين في «نهاية المطلب» ٤: ١٩٢ـ١٩٣، ونَسَب هذا القول إلى «بعض أئمة العراق». والله تعالى أعلم(4).

(1) وقال شيخنا ص: 72ـ73: «لا بدّ قبل النُّقلة إلى الشطر الثاني ـ وهو ‏عرض الوجهة الحديثية ـ من التنبيه إلى أمر مهم، هو أن الإباحة تأتي في كلام ‏الأصوليين على معنيين، أولهما: على معنى الإباحة الأصلية، وهو الذي ‏يقولون فيه: الأصل في الأشياء الإباحة، ثانيهما: الإباحة التي هي أحد الأحكام ‏التكليفية الخمسة عند الجمهور، أو السبعة عند الحنفية: الفرض، والواجب، ‏والسنة، والمباح، والمكروه تنزيهًا، والمكروه تحريمًا، والحرام.

والمباح الذي ورد ذكره في كل ما تقدم هو هذا المباح التكليفي، لا ‏الإباحة الأصلية، إذ إن فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمرٍ ما لا يخلو من دلالة ‏شرعية، أدناها مرتبةً: الإباحة، حتى على قول من يجوِّز عليه ما يجوِّز، ما دام ‏قد أُقِرَّ من قِبَل الوحي، فإن فعله صلى الله عليه وآله وسلم تشريع، وأدنى مراتبه: الإباحة، أما مَن ‏يقسم السنة النبوية إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية: فإنْ أراد الإباحة ‏التشريعية: فنعم، وقوله سائغ على منهج الأصوليين، وإن أراد الإباحة ‏الأصلية فلا، وهو قول باطل يُسْتغفر الله منه».‏

(2) وقد نشرنا من كلام شيخنا في هذا الكتاب، ص: 90ـ92، مقالة بعنوان: «خُلاصَةُ أقوالِ الأئِمَّةِ حولَ نَظرتِهِم للطِّبِّ النَّبَوِيّ». وهذا رابط تحميلها: https://t.me/shaykhawwama/880.

(3) «الإحكام» لابن حزم ١: ٤٦٧، و«كشاق القناع» ١: ٤٨٦. لكن انظر «المحلَّى» 3: ٩٠ (أواخر المسألة ٣٠١).

(4) انتهى كلام شيخنا حفظه الله تعالى ورعاه، وبارك الله لنا في عمره مع تمام الصحة والعافية، بتصرف يسير، ص: 55ـ66، ومن ثم تكلم عن: أقسام السنة النبوية، ص: 67ـ73، وقد نشر كلامه في المقالات السابقة، وهذا رابط تحميل المقالة: https://t.me/shaykhawwama/940.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين