تقدير الكفايات

روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثاً وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعضُ الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيمُ الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ، وإنَّ هذا لمن أحبِّ الناس إليَّ بعده).

فقه هذا الحديث:

إذا كان من حقوق الأمَّة على بنيها أن يُسخِّروا قواهم لخيرها، ويُجنِّدوا أنفسهم لعزِّها ومجدها، فإنَّ من حقوق الأقوياء الأمناء فيها والعلماء الأوفياء والأتقياء بين جنباتها، أن يكونوا موضع الثقة والعناية منها، ومحط التجلة والإعزاز بينها، فإنَّ لكلٍّ مقاماً معلوماً، ومنزلة محفوظة، كفاء ما وهبه الله تعالى من موهبة، وما منحه من فضيلة، وما آتاه من قوَّة في الحق، وبصر في تقدير سعادة المجتمع.

وبتقدير الأمَّة للكفايات وحدها دون أن يكون للعداوة أو المحبَّة سلطان في تولية أو حرمان من وظيفة، تستقيم أمورها، وتصلح شؤونها، ويشتدُّ بنيانها، لأنها تكون قد وقيت شر التحاسد والتحاقد، والتقاطع والتباغض، إلى غير ذلك من معاول الهدم فيها، والقضاء عليها.

وفي هذا الحديث من ضروب السياسة العُليا - التي يهدي بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته إلى طريق الكمال الإنساني - مثلان:

1 - تأميره أسامة بن زيد حبه وابن حبه على جيش عُدَّته ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش، ومنهم كبار المهاجرين والأنصار، وفي طليعتهم الشيخان: أبو بكر وعمر، وأمين هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجراح، بعث به إلى مشارف الشام، وهي حدودها مما يلي الصحراء، وكان هذا آخر جيش جهَّزه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وأول جيش أنفذه الصديق رضي الله عنه في خلافته.

2 - وتأميره أباه زيداً من قبله على جيش عدته ثلاثة آلاف كذلك، بعثه إلى مؤتة من مشارف الشام أيضاً، وولى عليه ثلاثة أمراء: أولهم زيد عقد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم لواء أبيض ودفعه إليه، وقال: إن قتل زيد فأميركم جعفر ابن أبي طالب، فإن قتل فأميركم عبد الله ابن رواحة.. فإن قتل فليرتضِ المسلمون برجل منهم، ومن هنا سمي هذا الجيش بجيش الأمراء.

جهَّز النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيش الأمراء دفاعاً عن الإسلام، وتثبيتاً لقواعد الحق، وإرهاباً لأولئك الذين اعتدوا على حرمات المسلمين، وقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنَّ الرسل لا تقتل، وإشهاداً للعالم بأنَّ العزَّة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين، وبأنَّ أساس النصر ليست كثرة العدد، ولا قوَّة العدو، وإنما هي النفوس الصادقة، والعقيدة الراسخة، والإخلاص للدعوة، والتفاني في الرسالة، بذلك نصرهم الله سبحانه، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الرُّوم:47]. 

ثم جهَّز صلوات الله عليه جيش أسامة قبيل وفاته، وندب الناس لغزو الروم – وهم والفرس أعظم دول العالم حينئذ – وعقد بيده الكريمة لواء أسامة، وقال له: سِرْ إلى موقع مقتل أبيك، وأغِرْ صباحاً، وأسرع المسير تسبق، فإن ظفَّرك الله بهم، فأقل اللبث فيهم.

وكان أسامة رضي الله عنه يومئذ حدثاً لا يكاد يعدو العشرين من سِنِّه، فكان لإمارته على المتقدمين الأولين من المهاجرين وعلى كبار الصحابة رضي الله عنهم ما أثار دهشة النفوس، لولا إيمانهم الصادق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أرأيت إلى خبرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أراد بتعيين أسامة بن زيد أن يقيمه مقام أبيه الذي استشهد في موقعة مؤتة، وأن يجعل له من فخار النصر ما يجزي به ذلك الاستشهاد، وما يبعث إلى جانب ذلك في نفس الشباب الهمَّة والحميَّة، ويعودهم الاضطلاع بأعباء أجسم التبعات.

هكذا كان نظره صلوات الله عليه في الرجال وحسن اختيارهم، حتى إن العرب – على مراسهم للحرب وبلائهم فيها – لم يستطيعوا أن يطعنوا في كفاية أسامة وأبيه ومقدرتهما الفائقة، وإنما كان طعنهم في أمر وراء الكفاية والجدارة، وهو أنه شق عليهم أن يكونوا تحت إمرة مولى من مواليهم وعتيق من عتقائهم، فضلاً عن أنه غلام حدث يتأمَّر عليهم، ولمَّا يبلغ العشرين.

إنها الأنفة والكبر والعصبيَّة التي جاء الإسلام لمحوها، واجتثاث أصولها، قولاً وعملاً، وسيرة وهدياً، لأنها من أشجار الفتن ومعاقد البلايا والمحن، بل كثيراً ما كانت سبباً لدفن الكفايات والقضاء على المواهب والملكات، فإنَّ في تقدير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكفاية زيد وابنه مبدأ إسلامياً قوياً، وهو بناء قاعدة المساواة بين الناس جميعاً، وهدم دعامة الفخر بالأحساب والأنساب، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإسناد الأمور إلى كل ذي مقدرة، ما دام أهلاً لها وكفؤاً للقيام بها.

رأى هذا كله وأكثر منه كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يطعنوا ولم يعترضوا، وإن رغب بعضهم في أن يتوجه جيش أسامة وجهة أخرى لمحاربة المرتدين، كما رغب بعضهم في أن يستبدل بأسامة من هو أكبر منه سناً، وأسبق في بلاء الحرب قدماً.

أو رأيت كيف يصنع الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف يهديه في سياسة أمته، ويجمع له في الأمر الواحد ما تفرَّق من قواعد الإصلاح، ودعائم الرشد والفلاح؟ وهكذا شأن كل مصلح متى صدقت عزيمته، وخلصت نيته، ووفى أمانته.

فإنَّ الولايات والأعمال العامة أمانات مسؤولة لا يتولَّاها إلا أهلها ممن رزقوا المقدرة على الاضطلاع بها، والوفاء بحقوقها.

روى مسلم في صحيحه: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال أبو ذر رضي الله عنه فضرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها).

فإنَّ الإسلام دين إنساني يَهدف في كل تعاليمه إلى الوحدة العامَّة، والرابطة الجامعة، لا فرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، وعربي وعجمي، ولا بين الأسود والأبيض، ولا بين القريب والبعيد.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية).

فالرسول صلوات الله عليه يقصد أنه ليس من أهل ديننا من يدعو قومه أو أهل حزبه وجماعته أو طائفته وعشيرته لنصره بالباطل، وليس منا من ينصر قومه أو شيعته بغير الحق، أو يتباهى بهم ليحقر غيرهم.

ذلك لأنَّ العصبية للون من ألوان الأمَّة، أو التحزُّب لطائفة من الطوائف أو شيعة من الشيع أو هيئة من الهيئات، إنما تفرِّق الأمَّة شيعاً وأحزاباً: يُقاتل بعضهم بعضاً، ويحابي بعضهم بعضاً، ويختلُّ ميزان العدل، وتشيع الفوضى، وتقع بينهم العداوة والبغضاء.

فحاربَ الإسلام لهذا كل امتياز بين الأجناس البشرية، وقرَّر لكل فطرة شرف النسبة إلى الله تعالى في الخلقة، وشرف اندراجها في النوع الإنساني، وشرف استعدادها لبلوغ أعلى درجات الكمال الذي أعدَّه الله لنوعها.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13].

فالكرامة والافتخار لا يرتبط بالانتساب إلى هيئة دون هيئة، أو الانضمام إلى طائفة بعينها، أو جماعة برسمها، بل بالعمل.

قال عليه الصلاة والسلام: (الناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هَيِّن ٌعلى الله، الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب) فالعصبية هي سر شقاء الإنسانية، ومنبع الإجحاف بالكفايات، والعدوان على الحقوق، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية)

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد التاسع، من السنة 11، 1377=1957 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين