تفنيد مغالطات حول حكم سعدٍ في يهود بني قريظة

بسم الله، وصلاة وسلاماً على سراج الهدى، وبعد:

فإنَّ من يقرأ مقالات الكاتب الليبرالي السوري،"أحمد الرمح"، يلحظ خلطه للأوراق عن عمد، وليِّ عنق النصوص وفق مقاصده ومراميه، وغير ذلك من مجازفات وتدليسات، وعلى سبيل المثال، ففي مقال له، بعنوان: "لماذا ندعو إلى حركة تنويرية"، تم نشره على موقع مرصد الشرق الأوسط، أورد حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خير في من لا يضيف"، قال ابن عبد البر في تعليقه على الحديث:" أجمع العلماء على مدح مكرم الضيف والثناء عليه بذلك وحمده، وأن الضيافة من سنن المرسلين وأن إبراهيم أول من ضيف الضيف". والحديث أورده الكاتب في معرض حديثه عن فكرة التجديد الديني، في مقالة له بعنوان: لماذا ندعو إلى حركة تنويرية، وفهِم الإضافة في الحديث، بمعنى التجديد وتحديث الفكر والشريعة!.

ثم إنه لا يستقيم توصيفه لعلمائنا برجال دين، كما هو الحال في الكنيسة، وكلنا يعلم أن لا كهنوت في الإسلام.

كما أنه يروج للعلمانية ومفكريها من أمثال "رياض درار"، المنعوت بالمفكر الإسلامي وبضاعته مزجاة، وصاحب مغالطات! ومن أمثال "يوسف المنجد"، الذي صرح بأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة. كما تحدث الدعيُّ "الرمح" عن علمانية لا تتعارض مع الإسلام، وأن المجتمع السوري يذهب باتجاه ليبرالية، لا تتعارض مع الإسلام.

ثم طلع علينا بشريط فيديو يدحض فيه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدداً كبيراً، من بني قريظة، ويقول: إن صحَّت تلك الروايات، فوفق القانون الدولي، هو فعل يندرج تحت مسمَّى جرائم ضدَّ الإنسانية! وأن الذين كتبوا عن الإبادة الجماعية لبني قريظة، ويدرج في سياق كلامه ابن كثير في تفسيره، وابن قيم الجوزية في زاد المعاد، والطبري في تاريخه وابن إسحاق في سيرته، ثم ينعت هؤلاء بسدنة وكهنة الدين الموازي، ويذكر أن من نفى صحة هذه الروايات باحث أميركي، وآخر هولندي، ويستشهد برأي العلماني الحاقد "فراس سواح"، وجميع هؤلاء يرون أن سند هذه الروايات لم يصح، وحجتهم أن اليهود لم يؤرخوا في وثائقهم هذا الحدث الهام، ومن ذكرها أنها انتهت بعدد كبير، هو ابن إسحاق وابن هشام والطحاوي، إذ وضعها ابن إسحاق للعباسيين، لغرض سياسي، يهدف إلى تسويغ قتلهم للأمويين، وقال: "إن ابن اسحاق مارس الكذب علينا، دون أن يستحي، وأن ابن اسحاق من ذكور السلطان!"، وكتب "الرمح" في إحدى تعليقاته على الفيديو خاصته: "روايات ابن اسحق بلا سند، تساؤلك مهم خصوصاً ان العباسيين الذين طلبوا من ابن اسحق كتابة السيرة برشوة من أبي جعفر المنصور، كانوا خصوما لعلي والزبير من قبل".

نلاحظ هنا أن المتحدث في مسألة تاريخية، ليست من اختصاصه، وبعد أن تمَّ فضح أفكاره ومشاريعه، يسوِّق لنفسه من جديد - وفي البيان النبوي: "المتشبع بما لم يُعطَ، كلابس ثوبي زور" - من خلال جزئية شعر إزاءها كثير من المسلمين بشيء من الحرج، إذ كيف لنبي الرحمة، أن يوقع الذبح في المئات من اليهود؟! ثم يتحدى المتحدث سامعيه ومنتقديه أن يأتوا باسم شخص ثامن، بعد أن أورد أسماء سبعة من الرجال، من بني قريظة لقوا حكم خيانتهم، والغريب أن يأتي شخص من خريجي الكلتاوية الشرعية، ليعلق على كلامه بالتالي: "لا فض فوك، ولا عاش شانئوك، ولا بُرَّ من يجفوك، ولا عدمك محبوك، ولا عاش حاسدوك!". وبعد هذا النفخ والثناء شعر المتحدث بالنشوة، فكتب في إحدى تعليقاته: " عندي مشاركات إعلامية دورية، ودراسات وأبحاث أنشرها بشكل دوري، ولكني لا أضعها هنا؛ ليس مهما أن التراثيين لا مقتنعون؛ مادمنا نطرح الحجة العقلية والنقلية؛ فيردوا علينا من كتاب الله والعقل، نسأل الله الهداية لنا جميعا". هو يستنكر من الآخرين، وبمنطق عجيب، أن يردوا عليه من كتاب الله والعقل، وهل المطلوب منهم، أن يردوا عليك بلسان المستشرقين؟ الذين لبستَ لباسهم وتكلمتَ بلسانهم!.

بعض الأذناب من بني "علمان"، نعتوا اليوم الذي عوقب فيه الخونة، من يهود بني قريظة باليوم الحزين، وقد وجدت ذلك في إحدى التعليقات، وقد صدرت من واحد من أبناء جلدتنا ومن المحسوبين على أمة المليار ونصف المليار!.

نلاحظ هنا أن المتحدث يثق بالموسوعة اليهودية التي لم توثِّق المذبحة، ويعمل في حديثه على نشر دعاية للتوراة المحرَّفة، ويحجب الثقة عن علماء كبار سارت أسماؤهم مسيرة الشمس أومأت إليهم، من مثل ابن كثير وأقرانه. كما يدغدغ المتحدث الدعيُّ، مشاعر المتدينيين بعبارات معسولة، من مثل قوله: "نبينا على خلق عظيم، وليس سفاحاً"، وهي كلمة حق أريد بها باطل، والباطل هنا يكمن بالغرض الخبيث الذي يريد أن يصل إليه، وهو التشكيك بنصوص السنَّة ونصوص السيرة، وبالعلماء الذين تلقتهم الأمة بالقبول، وبالتالي نسف التراث، والدخول في مدرسة الحداثة والتنوير والعقلانية، وهي تسميات مزركشة تهدف إلى هدم الإسلام من خلالها، بمعنى أن المتحدث ينتمي إلى مدرسة سبقه إليها شبلي شميل، وسلامة موسى، وعلي عبد الرازق، وهدى شعراوي، ونوال السعداوي، ومحمَّد حسين هيكل، وإحسان عبد القدُّوس، ورفعت السعيد، والسيِّد القمني، وحسن حنفي، وسهيل إدريس، وقدري قلعجي، وجلال صادق العظم، ومحمَّد شحرور، والشاعر أدونيس، وعبد الله القصيمي، والصادق النيهوم، ومحمَّد أركون، وأبو بكر الأخزوري، وسليمان النقيدان، وتركي الحمد، ومحمد عابد الجابري، ومحمد حبش؛ وآخرون أمثالهم؛ ويشتدُّ استغرابي من هؤلاء، كيف رضوا على أنفسهم أن يصبحوا سدَنةً للاستبداد السياسيِّ، وعبيداً للعمالة الثقافية!.

إذن غاية المتحدث هو سلوك طريقة المستشرقين في دسِّ السمِّ في الدسم، للوصول إلى قوله في نهاية الفيديو: "إذا أردت أن تعرف عن الإسلام ومحمد، عليك بالقرآن، أما الروايات في المصادر الأخرى، فكذبها أكثر من صدقها!"، وهنا بيت القصيد، ومكمن الخبث الذي يخدم أعداء الإسلام، والمتحدث "الرمح"، أداة مرنة بأياديهم الملوثة!.

ثم إن منهج ابن إسحاق،الذي شكَّك به المتحدث، يقوم على إيراد الأخبار بالأسانيد التي وصلت إليه، وبعضها موصول وبعضها منقطع أو معضل، في حين أن بعض الأخبار يوردها بدون إسناد .

وهو قد يعتمد في معلوماته مضطراً، على مجهولين فيقول: "حدثني بعض أهل العلم"، أو "حدثني بعض بني فلان"، أو "حدثني بعض أهل مكة"، أو "حدثني من لا أتهم"، أو "زعم رجال من بني فلان". والملاحظ أنه إذا شك في صحة الرواية، عبَّر عن ذلك بقوله: "فيما يذكرون"، أو "فيما يزعمون"، وهذه أمانة في النقل تُحسب له.

وإذا أورد أكثر من رواية، ولم يستطع الترجيح ختم كلامه بقوله: "فالله أعلم أي ذلك كان". كما أنه يجمع الروايات أحياناً مع بعضها دون تمييز لها، ويقدم بذكر الأسانيد مجموعة، ويسوق ملخصها.

وبهذا المنهج يحاول ابن إسحاق، أن يجمع بين منهج المحدثين القائم على الأسانيد، ومنهج الأخباريين المتحررين من الالتزام بالأسانيد، ولعل هذا من أسباب القبول الذي لقيته سيرته لدى العامة والعلماء.

إلا أن دمجه للروايات وجمع الأسانيد وسياقها مساقاً واحداً دون تمييز ألفاظ الرواة، لقي نقداً من نقاد الحديث، لأنه يجمع بين رواية الثقة وغير الثقة، ويسوقها مساقاً واحداً، دون أن يميز بين الحروف وألفاظ الرواة، فيختلط قول الثقة مع غيره.

وعلى كل حال، فإن ابن إسحاق يعتبر رائداً للكتابة في السيرة، وصاحب مدرسة لها منهجها المستقل عن مدرسة علماء الحديث، وقد سهَّل للناس دراسة السيرة وتنظيمها في نمط قصصي متسلسل، ولذا وصفه العلماء بأنه إمام في المغازي والسير.

حتى إن د. سهيل زكار، المتخصص بدراسة التاريخ، والذي نقل عنه الدعيُّ "الرمح"، قال: "فإن عمل ابن إسحاق يبقى الأساسيّ فيما يتصل بالسيرة وإلى حدّ ما بالتاريخ. وتكمن أهميته كمؤرّخ في استيعابه لتجارب شيوخه، وفي تطويرها وإعادة تنظيمها من خلال فهمه الجديد للتاريخ، ومن خلال نظرته الشاملة النابعة من ثقافته الواسعة، وإدراكه للمغزى السياسي للصورة التاريخية. من هنا صار ابن إسحاق شيخ كتّاب السيرة، وصار من كتبوا بعده عيالا عليه .... ولد محمد بن إسحاق بالمدينة حوالي عام 85 هـ/ 705 م، وبها نشأ وأدرك بعضَ الصحابة، لكنّ أكثر سماعه كان من أبناء الصحابة. وقد سمع من أبيه وكبار التابعين بالمدينة، ثم رحل في طلب العلم إلى مصر، ونحن نعلم أنه كان بالإسكندرية عام 119 هـ/ 738 م، ثم عاد إلي المدينة وبدأت شهرته بسعة الرواية تنتشر .... وطبيعة الكتابة التاريخية التي عمل ابن إسحاق في مجالها أرغمته على التحلّل بعض الشيء من طرائق المحدّثين، الشديدة التدقيق، والحرفية المنحى، والبالغة الإيجاز".

وبعد هذا التقديم، ولبيان خيانة بني قريظة، وبعض تفاصيل ما حدث، يقول الدكتور وهبة الزحيلي، في كتابه التفسير المنير: "ثم نازلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه، لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية. فلما جاء سعد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "قوموا إلى سيدكم"، فقام إليه المسلمون إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت". فقال رضي الله عنه: "وحكمي نافذ عليهم؟". قال صلّى الله عليه وسلّم: "نعم" قال: "وعلى من في هذه الخيمة؟". قال: "نعم" قال: "وعلى من هاهنا؟"، وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرِض بوجهه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا وإكراما وإعظاما، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "نعم".

فقال رضي الله عنه: "إني أحكم أن تقتَل مقاتلتهم، وتسبَى ذراريهم وأموالهم". فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لقد حكمت بحكم الله تعالى، من فوق سبعة أرقعة". أي سبع سموات. أو "لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله".

ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأخاديد، فخدّت في الأرض، وجيء بهم مكتّفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبع مائة إلى الثمان مائة، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء، وأموالهم، لذا قال تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} أي وألقى في نفوسهم الخوف الشديد، لممالأتهم المشركين على حرب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإخافتهم المسلمين، وقصدهم قتلهم، فانعكس الحال عليهم، وأسلموا أنفسهم للقتل، وأولادهم ونساءهم للسبي، فريقا تقتلون، وهم الرجال المقاتلة، وتأسرون فريقا، وهم النساء والصبيان.

........... أعلن بنو قريظة بتواطئهم مع الأحزاب من قريش وغطفان نقضهم العهد مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال لهم الرسول: "نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته"، وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى أموالهم وذراريهم". أ.هـ. وحكم سعد رضي الله عنه، ورد في الصحيحين، البخاري ومسلم.

قال الإمام العيني، في كتابه: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"، في سياق ذكر عددهم "وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح، أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيحتمل في طريق الجمع، أن يقال أن الباقين كانوا أتباعاً".

هذا ومع تقدم العلم وتقنيات البحث والتنقيب، وتوفر برامج الحاسوب، ومع إسقاط المعلومات التاريخية، وربط القرائن ببعضها، فقد تم نتيجة جهود طويلة، تحديد المكان الذي أوقع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقوبة خيانتهم، وفيما بدا أن المكان لا يتسع للمئات التي تجاوزت الأربعمائة، مما يرجح رواية كتب السنة والمصنفات الحديثية، أن عددهم أربعمائة، ومما يدعم هذا الرأي أنه قد وردت بعض الروايات، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد وزعهم على بطون الأوس، من مثل بني الأشهل، وبني عوف، وغيرهم، وكان منهم غير مسلمين، لكن رضخوا لحكم الله ورسوله فيهم، لأن سيدهم حكم بذلك، ورسول الله هو الحاكم الأعلى للمدينة، وما سمع أحدنا بأن المدان يختار قاضيه، وهذا جانب من جوانب الرحمة التي حباها المولى لنبيه عليه الصلاة والسلام، ولو أن أحدنا مكانه فما هو صانع بحفنة سرت الخيانة في دمائهم.

هذا وكان ممن ساعدهم على إنفاذ الحكم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، ومن المقبول والمعقول أيضاً أن يكون عددهم أقل من أربعمائة، ولكن ابن إسحق أدرج في روايته ما أشاعه اليهود أنفسهم، وانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، لغرض يبتغونه، أو أن المسلمين قد بالغوا في الرقم إظهاراً لقوة المسلمين، وكيف كسر الله شوكة الخونة من بني قريظة. والذي يهمنا هنا أمران، أولاهما أن ابن إسحق ثقة مأمون في النقل، وأخراهما أن ابن إسحاق نقل الرقم الذي شاع في وسط المدينة، ونقله أهلها إلى من بعدهم، حتى وصل إليه رحمه الله. ولا يُعقَل البتَّة أن يمكث النبي صلى الله عليه وسلم، في حصار ثمانية أشخاص على مدى خمسة وعشرين يوماً!.

وتجدر الملاحظة إلى أن تركيز المتحدث على العدد فيه جانب خبث، واستهلاك لعاطفة الذين يوافقون اليوم على التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب. ثم إذا كان الحكم عادلاً فما هي المشكلة في العدد؟!، وهل الخونة مع كثرتهم مسوغ لتخفيف الحكم عنهم؟! ألم يقل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وفي حق أناس مسلمين: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً"، وقتل وقتئذٍ نفراً خمسة أو سبعة برجل واحد، قتلوه قتل غيلة.

ولمزيدٍ من الفائدة وبيان معالم مهمة في قضية بني قريظة، التي استغلها أعداؤنا واصطادوا من خلالها في الماء العكر، فإن حكم الله الذي برَّأ اليهودي، من سرقة طعام رفاعة بن زيد، قام بها رجل من بني أبيرق، هو ذاته الذي أدان خيانة بني قريظة. قال تعالى: {ولا يظلم ربك أحداً}. ومنطق العدل يقول: إن هؤلاء لا يصلح لهم إلا الذبح، ولا يدعي مدع أفاك، أن هذا سيسوغ للغلاة أن يوقعوا ذات الحكم بمن ليس بمسلم، والجواب أن سلامة المنهج تقي المسلم غير الغالي، وتجعله في موضع الوقَّاف عند حدود الله.

اتجهت أنظارُ بني قريظة، كما يقول الكاتب المسلم، محمد رجب بيومي، إلى حلفائهم من الأوس ليكونوا شفعاءهم لدى محمد صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يدرك نفسيات قومه فيضع الشيء في موضعه، إذ يختار سعد بن معاذ ليكون فيصلا قاطعا، ينزل الفريقان على رأيه، وسعد من هو شدة حمية وقوة إيمان، وقد قدَّر الموقف تقدير من شاهد كروبه ومآزقه، وعرف النذر المستطيرة التي تراءت في الأفق، فأوشكت أن تطيح بالعصبة المؤمنة لولا عناية الله بالرياح الثائرة، وقد هم بعض أصحابه يزينون له الإحسان في مواليه، ويجنحون به إلى السلام والفداء فماذا فعل عند ذاك؟ لقد حكم بأن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، ولم يكونوا من الأسرى، بل أدينوا بالخيانة العظمى، والتي عقوبتها معلومة عند البشر قاطبةً على اختلاف عقائدهم، وتباين توجهاتهم.

وليس من الإنصاف بمكان وصف سعد رضي الله عنه، بالوحشية والقسوة والغدر، كما يردد كثير من الببغاوات، بل يكاد أن يكون من القلائل الذين يعرفون أمراض بني قريظة، والأدوية الناجعة لهم ولخيانتهم البغيضة، والمنطق حتى في عصرنا الذي نعيشه، في القرن الحادي والعشرين، يفيد بأن المسلمين لم يتجنوا على بني قريظة باستئصالهم المبيد لهم، لأنهم متهمون بالخيانة العظمى. وقد ثبتت تهمتهم ثبوتا قامت دلائله وفدحت نتائجه، وهذه الخيانة الخطيرة ليس لها في جميع الشرائع غير الإعدام السريع، ولم يكن اليهود أسرى حرب فيميل بهم إلى الشفقة، ولكنهم شر من الأعداء، إذ بيتوا الغدر لأناس يأمنونهم ويخصونهم بحقوق الجار، وواجبات الذمام. سلُّوا السيوف ووقفوا في صفوف العدو وأوقعوا الهلع في قلوب يحيط بها الروع من كل ناحية. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أوقع فيهم العقوبة الواردة في شريعتهم، والذين يستهولون حكم سعد على حلفائه، يجهلون أن التوراة التي يدين بها هؤلاء اليهود توجبه وتفرضه، فهو حكم يعلمونه من نصوصهم، ويشيدون بعدالته في أطوائهم، وما على المسلمين ملامة، إذا قضوا بحكم يعترف به أعداؤهم، دون أن يجدوا وجهاً للنقض والاستئناف، فقد جاء بالإصحاح العشرين في سفر التثنية: "وإن لم تسالمك أي قرية بل حاربتك فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يديك فاضرب جميع ذكورها بحدِّ السيف".

يقول الزعيم الهندي الكبير مولاي محمد علي، تعليقاً على هذا النص في كتابه: "محمد رسول الله": "لقد كان القاضي من اختيارهم وكان الحكم مطابقا كل المطابقة لشريعتهم، فماذا يمكن أن يعاب في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم".

هذا الذي قمت بتفنيده، هو الحق الذي رمته، شفاء للعليل، وإرواءً للغليل، وعملت جاهداً على تعزبز وجوه الصواب فيه، في بيانٍ تتبختر الحجَّة فيه اتضاحاً، أمام شبهةٍ تتضاءل حيالها افتضاحاً؛ وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

 

وكتبه مقيِّده عفا الله عنه: موفَّق شيخ إبراهيم

1444هـ/2023م

 

 

الفيديو محل التفنيد:

<iframe src="https://www.facebook.com/plugins/video.php?height=314&href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2F100008622729998%2Fvideos%2F817028016222517%2F&show_text=false&width=560&t=0" width="560" height="314" style="border:none;overflow:hidden" scrolling="no" frameborder="0" allowfullscreen="true" allow="autoplay; clipboard-write; encrypted-media; picture-in-picture; web-share" allowFullScreen="true"></iframe>

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين