تفسير وفقه آياتُ الصيام (4)

11- ليلُ رمضان وأحكامه:

أ-قال الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]

ب-تفسير الآية:

أ-الرحمة والتَّخفيف

هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلّى العشاء حَرُمَ عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقّة كبيرة.

كانوا يأكلونَ ويشربون ويأتون النساء مَا لم يناموا فإذا نامُوا امتنعوا.

ب-سبب نزول الآية:

كان السبب في نزول هذه الآية ما روي أنَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها،

عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ..!، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِي عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [البقرة: 187]الى {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187](1)

(فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) كناية عن النوم. (خَيْبَةً لَكَ): (تأسّفاً وتحسّراً على حاله).

(غُشِي عَلَيْهِ) من الغشيان وهو الإغماء. (فَنَزَلَتْ) أي: تتمة الآية. (الخَيْطُ الأَبْيَضُ) بياض الصبح الصادق أول ما يبدو معترضا في الأفق كالخيط الممدود، و(الخَيْطِ الأَسْوَدِ) ما يمتدُّ معه من غبش الليل وسواده]

وفي رواية: أحمد: فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ: فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَدْ جَهَدَ جَهْدًا شَدِيدًا قَالَ: مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَهَدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا.؟

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ فَجِئْتُ حِينَ جِئْتُ، فَأَلْقَيْتُ نَفْسِي فَنِمْتُ، وَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صَائِمًا.

ج- قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ جَارِيَةٍ أَوْ مِنْ حُرَّةٍ بَعْدَ مَا نَامَ، وَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ). [البقرة: 187] (2)

والرَّفَثُ هنا: هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد.

{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]

قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني هُنّ سَكَنٌ لكم وأنتم سَكَنٌ لهنّ.

وقال الربيع: هنَّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنَّ، وحاصله أنَّ الرجل والمرأة كلٌّ منهما يخالط الآخر ويماسُّه ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشقّ ذلك عليهم ويُحرجوا.

{ علم الله أنَّكم كنتم تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187]

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلُّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إنَّ أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَشَكُوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] } فأنزل الله عند ذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، والرَّفَثُ: مجامعة النساء {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 187] يعني تُجامعونَ النِّساء وتأكلونَ وتشربون بعد العشاء، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] يعني جامعوهنّ {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] يعني الولد،

د-قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فكان ذلك عفواً من الله ورحمة.

قال ابن جرير: كانَ الناس في رمضان إذا صَام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنِّساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة وقد سَمر عندهُ، فوجدَ امرأته قد نامتْ فأرادها فقالتْ: إني قد نمتُ، فقال: ما نِمتِ، ثمَّ وقع بها.

وصنعَ كعب بن مالك رضي الله عنه مثل ذلك فغدَا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الآية.

فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمةً ورخصةً ورِفقاً.

وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: يعني الولد.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني الجماع. وقال قتادة: ابتغوا الرُّخصةَ التي كتبَ الله لكم، يقول ما أحلّ الله لكم.

واختار ابن جرير أنَّ الآية أعمّ من هذا كلّه.

قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

أباحَ تعالى الأكلَ والشربَ مع إباحة الجماع، في أيِّ الليل ما شاء الصائم إلى أن يتبيّنَ ضياء الصباح من سواد الليل، وعبّر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله: (مِنَ الْفَجْرِ)، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنما يعني الليل والنهار.

وعن عَدِي بن حاتم رضي الله عنه  قال: لما نزلت هذه الآية {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ، وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ، فَلاَ يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» (3).

وجاء في بعض الألفاظ: «إنك لعريض القفا». ففسّرهُ بعضهم بالبلادة، ويُفَسّره رواية البخاري أيضاً قال: «إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين»، ثم قال: «لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار».

(1) - صحيح البخاري (3/ 28)1915

(2) -مسند أحمد مخرجا (36/ 436)22124

(3) - أخرجه البخاري (1817)، ومسلم (33).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين