تفسير وفقه آياتُ الصيام (3)

8-شرفُ رمضان بنزول القرآن والكتب الإلهية:

أ-قال تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].

ب-التفسير:

يَمدحُ الله تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختارهُ من بينهنَّ لإنزال القرآن العظيم، وأنَّه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء.

أخرج الإمام أحمد:عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» (1) *أمّا الصحف والتوراة والزبور والإنجيل، فنزل كل منها على النبيّ الذي أُنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]،

وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3].

ثم نزلَ بعدُ مفرَّقاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

هكذا رُويَ من غير وجهٍ عن ابن عباس أنه سأله عطيَّة بن الأسود قال: وقعَ في قلبي الشكّ؛ في قولُ الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدْر:1] وقد أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجّة، وفي المحرّم وصفر وشهر ربيع...!!

قال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملةً واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام (2).

وقوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة: 185] هذا مدحٌ للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممَّن آمن به وصدّقه واتبعه، (وَبَيِّنَاتٍ) أيّ دلائل وحجج بيِّنة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحَّة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغيّ، ومفرّقاً بين الحقّ والباطل، والحلال والحرام، وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال: (رَمَضَانَ) ورخّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت، وقد انتصر البخاري لهذا فقال: باب ـ يقال رمضان ـ وساق أحاديث في ذلك، منها: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ونحو ذلك(3)...

9-تكبير الله وشكره:

وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]

وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] ولهذا جاءتْ السنّة باستحبابِ التسبيحِ والتحميدِ والتكبيرِ بعد الصلواتِ المكتوباتِ.

وقال ابن عباس: ما كنَّا نعرفُ انقضَاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالتكبير. ولهذا أخذ كثيرٌ من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] أي: إذا قمتُمْ بما أمرَكمُ الله من طاعتهِ بأداء فرائضه، وترك محارمهِ، وحفظِ حدودهِ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين

10-يُسْرُ الدِّين:

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] قال: اليسر الإفطار في السفر، والعسر الصوم في السفر. وأخرج أحمد عن الأعرج أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنّ خَيْرَ دينِكُم أَيْسَرَه، إنَّ خَيْرَ دينِكُم أيسَرَه» (4).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّروا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّروا» (5).

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ هذا الدِّينَ متينٌ فأوغِلْ فيه بِرِفْقٍ، فإنّ المُنْبَتَّ لا أرْضاً قطعَ ولا ظهراً أبقى» (6).

وأخرج أحمد مسند عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّصلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْإِسْلَامُ ذَلُولٌ لَا يَرْكَبُ إِلَّا ذَلُولًا " (7).

وأخرج البخاري والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الدِّينُ يُسْرٌ، ولن يُغالِبَ الدِّينَ أَحَدٌ إلا غَلَبَهُ. سدِّدوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا واستعينوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ من الدُّلجة» (8).

وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّ هذا الدِّينَ متينٌ فأوغِلْ به برِفْقٍ،

ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِكَ عبادةَ ربِّكَ، فإنّ المنبَتّ لا سَفراً قطعَ ولا ظهراً أبقى، فاعمَلْ عَمَلَ امرِئ يظنُّ أنْ لنْ يموتَ أبداً،

واحذَرْ حذراً تخشى أنْ تموتَ غداً» (9).

 

(1) - رواه أحمد في مسنده (28/ 191)16984

(2)- تفسير ابن أبي حاتم، باب قوله: الذي أنزل فيه القرآن رقم (1672).

(3) -رواه البخاري (38).

(4)- مسند أحمد مخرجا (25/ 284)15936

(5) -صحيح البخاري (8/ 30)6125، صحيح مسلم (3/ 1359)8 - (1734)

(6) - شعب الإيمان للبيهقي (3728).

(7) -رواه أحمد في مسنده (21898).

(8)- رواه البخاري (39).

(9) - شعب الإيمان للبيهقي (3724).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين