تفسير وفقه آياتُ الصيام (2)

6-أحكام المريض:

قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] للمريض حالتان:

إحداهما: ألا يُطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبٌ.

الثانية: أن يقدر على الصوم بضررٍ ومشقّةٍ، فهذا يستحبُّ له الفطر ولا يصوم إلا جاهل.

وقال جمهورٌ من العلماء: إذا كان به مَرضٌ يُؤْلمهُ ويُؤذيهِ أو يَخافُ تماديهِ أو يخافُ تزيّدهُ صَحَّ لهُ الفِطْرُ.

قال ابن عطية: وهذا مذهب حذَّاق أصحاب مالك وبه يناظرون.

وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغُ به.

وقال ابن خويزمنداد: واختلفتْ الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر.

فقال مَرَّة: هو خوف التلَف من الصيام.

وقال مرَّة: شدَّة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخصَّ مَرضاً من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصَّهُ الدليل من الصُّداع والحمى والمرضَى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام.

وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أَفطر. وقاله النخعي.

وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعتهُ ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى.

وقال أبو حنيفة: إذا خافَ الرجل على نفسهِ وهو صائم إن لم يفطر أنْ تزدادَ عينهُ وجعاً، أو حمَّاهُ شِدَّة أفطر.‏

7-أحكام المسافر

قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] وههنا مسائل تتعلّق بهذه الآية:

(إحداها): فإنه قد ثبتت السنّة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم «خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الكَدِيدَ، أَفْطَرَ»، فَأَفْطَرَ النَّاسُ).

قَالَ أَبُو عَبْدِ الله-البخاري-: وَالكَدِيدُ: مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ.

(عُسْفَانَ) قرية بين مكة والمدينة. (قُدَيْد) موضعٌ قريبٌ من مكة]

وأخرجه مسلم في الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر. (1). وأنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح فسَار حتى بلغ الكديد ثم أَفطر وأمر الناس بالفطر.

(الثانية): الصحيح قولُ الجمهور أنَّ الأمرَ في ذلكَ على التخيير وليس بحتمٍ؛ لأنَّهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان قال: أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلاَ المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ»(2)، فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكرَ عليهم الصيامَ، بل الذي ثبتَ من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهُ كان في مثل هذه الحالة صَائماً، ثبتَ في الصحيحين عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنِ رَوَاحَةَ» عبد الله بن رواحة(3).

(الثالثة): قالت طائفة، منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم.

وقالتْ طائفةٌ: بل الإفطارُ أفضل أخذاً بالرخصة.

وقالتْ طائفةٌ: هما سواء لحديث عائشة - زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم-: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ -وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ -فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» (4)

وقيل: إن شقَّ الصِّيامُ فالإفطار أفضل لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سَفَرٍ، فَرَأَى رَجُلًا قَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا لَهُ...؟» قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ» (5).

(الرابعة): القضاء هل يجب مُتَتَابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان:

(الأول): أنه يجبُ التتابعُ لأن القضاءَ يحكي الأداءَ.

(الثاني): لا يجب التَّتَابع بل إن شاء فرّق وإن شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدّة ما أفطر، ولهذا قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].

ثم قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة: 185].

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: «بشِّرا ولا تُنَفِّرا، ويَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وتَطَاوَعَا ولا تَختَلِفا» (6). وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيّةِ السَّمْحَةِ» (7).

ومعنى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185].

أي إنَّما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر، ونحوهما من الأعذار، لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عِدَّةَ شهركم.

ب ـ المسافر وأحواله: اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يُبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافراً بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافراً بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عملٍ فافترقا.

ولا خلاف بينهم أيضاً في الذي يُؤمِّل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج.

وقال أحمد: يُفطر إذا برز عن البيوت.

وقال إسحاق: لا، بل حين يضعَ رجلهُ في الرَّحْلِ.

قال ابن المنذر: قول أحمد صحيح، لأنََّّهم يقولون لمن أصبحَ صحيحاً ثم اعتلَّ: إنَّهُ يُفطر بقيَّة يومهِ، وكذلكَ إذا أصبحَ في الحضر ثم خرج إلى السفر فلهُ كذلك أن يفطر.

وقالت طائفة: لا يُفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. واختلفوا إن فعل، فكلهم قال: يَقضي ولا يُكَفِّر.

قال مالك: لأنَّ السفر عذر طارئ، فكان كالمرض يطرأ عليه.

وأما قولهم لا يُفطر فإنما ذلك استحبابٌ لما عقدهُ فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء.

وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة: (يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافراً) وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق.

وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة [باب من أفطر في السفر ليراهُ الناس] وساق الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ» (8).

وفيه أيضاً حجَّة على من يقول: إن مَن بَيَّتَ الصوم في السفر فلهُ أن يُفطر وإنْ لم يكنْ لهُ عذرٌ، وإليه ذهب مُطرِّف، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث.

وقد رُوي عن مالك أنه لا كفارة عليه،

وهو قول أكثر أصحابه، إلا عبد الملك فإنه قال: إنْ أفطر بِجِمَاعٍ كَفَّرَ؛ لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عُذْرَ له؛

لأنَّ المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره.

*وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز: إنَّه لا كفارة عليه، منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، (9).‏

ج-ما هو الأفضل في السفر الصوم أم الفطر.؟

عن عائشةَ رضي الله عنها: أنّ حمزةَ بنَ عَمْرو الأسْلمي قال يا رسولَ الله: أَأَصُومُ في السَّفَرِ؟ ـ وكان كثيرَ الصِّيَام ـ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنْ شِئْتَ فَصُمْ وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» (10).

الأحاديث الواردة في صيام المسافر في رمضان مختلفة المفهوم والدلالة فبعضها يفيدُ بظاهرهِ عدم صحة الصَّوم؛ وأكثرها يفيد صحَّة الصوم. ومن هذه الكثيرة ما يرجِّح جانب الفِطر، ومنها ما يرجِّح جانب الصِّيام،

ومنها ما يفيد استواء الأمرين. ولهذا تعدَّدت المذاهب في المسألة بتعدُّدِ هذه الجهات. فذهب بعض الظاهرية إلى فساد صوم المسافر أخذاً بظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] الآية. ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس من البرِّ الصيام في السفر»، (11)ولقوله في حديث آخر: «أولئك العصاة»(12). وعلى هذا فيجب على من صام في سفره القضاء.

وذهب جمهور العلماء إلى جواز الصوم وصحّته وإجزائه.

1ـ تفضيل الصوم:

رأى أكثر الأئمة تفضيل الصوم على الفطر عند استطاعة المسافر بلا مشقَّة وعدم التضرُّر به، ومن هؤلاء مالك وأبو حنيفة والشافعي، فإنْ تضرَّر فالفطر أفضل. واحتجُّوا بصوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله بن رواحة وغيره، ولأنه تحصل به براءة الذمة في الحال.

2 ـ تفضيل الفطر:

ورأى بعضهم تفضيل الفطر، ومن هؤلاء أحمد وإسحاق والأوزاعي وسعيد بن المسيب، واحتجُّوا بما احتجّ به أهل الظاهر وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «هي رُخْصَةٌ مِنَ الله فمَنْ أخذ بها فحَسَنٌ، ومَن أحبَّ أن يصومَ فلا جُناح عليه» (13) فظاهرهُ ترجيح الفطر.

وأجاب الأكثرون بأنَّ هذا فيمنْ يخاف ضرراً أو يجد مشقّةً، واعتمدوا حديث أنس الآتي بعد هذا وغيره الذي صرّح فيه بأن بعضهم كان يصوم وبعضهم كان يفطر فَمَا يعيبُ فريقٌ فريقاً.

3 ـ استواء الأمرين:

وذهبتْ طائفة ثالثة إلى أنَّ الأمرين سِيّان، أعنِي الفطر والصِّيام لتعادل الأحاديث، ورجّح النووي الصوم، والله أعلم (14).

(1) -صحيح البخاري (3/ 34)،1944 ومسلم (2660). تفسير القرطبي 1/185

(2) -صحيح البخاري (3/ 34)1947.

(3) -رواه البخاري (1945)، ومسلم (2686).

(4)- رواه البخاري (1943)، ومسلم (2681).

(5) - رواه البخاري (1946)، صحيح مسلم (2/ 786)92 - (1115).

(6) - رواه البخاري (3038)، ومسلم (4623).

(7) -رواه أحمد في مسنده (22951).

(8)- أخرجه البخاري (1948)، ومسلم (2664).

(9)- تفسير القرطبي باختصار.

(10) -أخرجه البخاري (1943).

(11) مسند أبي داود الطياليسي (2/ 679)1440

(12) -صحيح مسلم (2/ 785)90 - (1114)

(13) أخرجه مسلم (2685).

(14) انظر ‏مسند الإمام الشافعي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين