تعلموا العربية أيها الجهلة الحلقة (9) لماذا استعمل القرآن الكريم

مشكلة "رشيد" وأتباعه أنهم جهلة ويظنون أنهم علماء، علماء في التاريخ وعلماء في علوم الشريعة وعلماء في العربية، وقد بان لي من سماع كلامهم، وتتبع آرائهم أنهم جهلة أغبياء، في كل فن يتكلمون فيه، وهاهم الآن يضعفون استعمال القرآن الكريم للحرف "لم" في قوله تعالى: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} فزعم رشيد أنه لو قيل: "لن " لفُهِم المعنى؟

قلت: ويحَ هذا الرجل ما أجهله؟ لم يصب في رأي ولم يوفق في تفسير؟ والظاهر أنه – حقا- يعاني من اضطراب عقلي، فيظن أنه جالس على كرسي السلطان وهو في "تواليتات- بيوت خلاء -" القساوسة والرهبان؟ يشرب أبوالهم ويمضغ خراهم؟ سأشرحها لك بأبسط تعبير لعلك تفهم.

لقد استعمل القرآن “لم " لأن أدوات النفي "لن ولا وما ولمَّا "لا تحقق الغرض الذي يراد من السورة الشريفة، وهو التوحيد النقي، فالحرف "لم" له وظائف كثيرة تخدم الغرض بدقة، فهي موضوعة لنفي الماضي، قال سيبويه: "لم" نفي لقوله: فعَلَ [1] فحين نقول: قام زيد، يكون نفيه: لم يقم زيد، فوظيفتها هي نفي للفعل الماضي "قام "وهذا ما عبر عنه النحاة بقولهم إن "لم يفعل " نفي "فعَلَ "[2] وقد شاركت هذه الوظيفةَ وظائفُ أخرى منها: أنها تجزم الفعل المضارع – والآن لا يعنينا أمره –

ومنها: أنها قلبت زمن الفعل من الحال إلى الزمن الماضي ،فيبقي النفي مستمراً متصلا إلى زمن التكلم ، ولتعلم أيها الجويهل أن زمن المضارع قبل دخولها عليه كان للحال الصالح للاستقبال أيضاً ، فلم يكن في أصل وضعه للماضي، والمهم أنه بعد دخولها انقلب زمنه إلى الماضي، فقوله تعالى "لم يلد " هو جواب لقولهم "ولدَ الله " حكى سبحانه وتعالى ذلك بقوله "ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولدَ الله " قال الشوكاني: وإنما عبر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لم يلد ولم يولد في الماضي ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذاك في المستقبل ، لأنه ورد جواباً عن قولهم :ولدَ اللهُ" كما حكى الله عنهم بقوله: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون: ولد الله}، فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد النفي فيما مضى ، وردت الآية لدفع قولهم هذا [3]أي لما كانت "لم يلد ولم يولد" رداً على "ولدَ الله " جيء بالحرف "لم" لأنه كما ذكرنا هو عند العرب نفي للفعل الماضي "فعلَ"، فلعلك فهمت السرَّ من استعمال "لم" أيها الجاهل ،أما استمرار النفي إلى زمن التكلم ،فقد نص النحاة على أنه مستمر إلى زمن التكلم ما لم يوجد شيء يقطعه "وذلك كقوله تعالى " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " أي ثم كان شيئاً مذكوراً ،أما مثال استمراره واتصاله بالحال، وعدم انقطاعه ،فقد أشار إليه ابن مالك بقوله " ومثال الثاني –أي عدم الانقطاع – قول سيبويه : ولِمَا هو كائن لم ينقطع، وقوله تعالى "ولم أكن بدعائك رب شقيا " [4]أما عباس حسن فوجد أوضح مثال لذلك هو قوله تعالى "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" حيث جاء الاتصال هنا واجبا[5] - كما قال -لأنه لا توجد قرينة أو أي دليل يفيد أن هذا النفي قد انقطع، فهو مستمر وطويل [6]أما استمرار النفي إلى المستقبل ،فلا ضرورة له ما دامت "لم" قد دلت منذ الأزل على نفي حصول زواج أو توالد أو وجود المكافئ ،وأفادتنا أيضاً أن هذا النفي مستمر متصل إلى زمن التكلم ، أي لا داعي لاستعمال حرفٍ يفيد نفي شيء في المستقبل، وهذا الشيء منفي حصولُه من الأزل ؟ فلله در الشوكاني على ما أفاد وأجاد في قوله السالف الذي ذكرناه فهو رد واضح على تساؤلاتك الخبيثة يا رشيد ،نتبين منه وجه الحكمة من استعمال "لم" الدالة على نفي الماضي ، فهي مقتضية نفي المستقبل عقلاً ، أما الزمخشري صاحب البلاغة فقد ألمح إلى الحكمة من دلالة "لم" حين شرح هذه الآيات قال :لم يلد "لأنه لا يجانَس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، وقد دلَّ على هذا المعنى بقوله : "أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة "ثم قال "ولم يولد" لأن كل مولود محدث وجسم ، وهو قديم لا أول لوجوده، وليس بجسم، ولم يكن له كفواً أحد "أي لم يماثله ولم يشاكله، ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح نفياً للصاحبة "ثم قال :لم يولد "وصف بالقدم والأولية ، وقوله: لم يلد" نفي للشبه والمجانسة، وقوله: ولم يكن له كفواً أحد "تقرير لذلك وبتٌّ للحكم به "[7]وفصل الشوكاني تقرير الزمخشري فقال "ولم يكن "الآية " هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها ،لأنه إذا كان سبحانه وتعالى متصفاً بالصفات المتقدمة – هو الله أحد الله الصمد"- كان متصفاً بكونه لم يكافئه أحد ولا يماثله ولا يشاركه في شيء[8]

لعلك بعد هذاالشرح المبسط أدركت أيها الجويهل سرَّ استعمال "لم " في هذا المقام؟ فلتسكت وقطع الله لسانك.

- أما قولك :لِمَ لم يقل "لن" بدل "لم"، فأرى أن قولك كاشفٌ جهلَكَ، وفيما شرحناه حول استعمال "لم" يتضمن الردَّ عليك ومع ذلك أوضح لك ذلك لعلك تفهم ،أيها المُبعد المنكوس فإليك البيان، اعلم أن "لن" عند العرب موضوعة لنفي المستقبل [9]،قال سيبويه "ولن نفي لقوله: سيفعل [10]والرجل العامي يدرك من الآيات الكريمات أن المراد منها ليس نفي المستقبل !وكأني بك حين تختار "لن" تريد شراً ،وذلك أنك تريد تثبيت وإقرار فكرة أن الذات الإلهية قد "تثلثت "قديماً، [11]فهي الآن كذلك ،لذلك رغبت أن تكون "لن" بدل "لم" يعني أن التثليث حصل، وقضي الأمر ؟فإن كنت تريد ذلك، فالجواب :أن لا دليل في السورة كلها يفيد أن التثليث حصل ، لقد ذكرنا كل الأدلة التي تؤكد أن "الأحد "لا يفيد العدد ولا التعدد ولا التجمّع ولا التركيب، فكيف تريد أن نؤمن بشيء لم يحصل البتة ؟وقد رأيت أن اللغة التي نزل بها القرآن الكريم لا تساعد أبداً على هذا الفهم ؟فهل تجبروننا على الأخذ بعربيتكم المتولدة من السريانية والعبرية ؟لقد اخترعتم عربية تتفق مع خيالكم اللاهوتي الذي جعلكم كما قال زعماؤكم تؤمنون بما لا يقبله العقل، والحمد لله على نعمة العقل يا رشيد ؟والظاهر أنكم حين لم تجدوا معاني عربية للفظتي "الأحد والصمد " تساعدكم على إثبات التثليث تطلعتم إلى السريانية تارة والعبرية تارة أخرى ،خبثاً ومكراً، ولكن خاب مسعاكم، وتبين زيف ادعائكم، ثم نظرتم إلى استعمال الحروف لإفلاسكم العلمي لعلكم تجدون شيئاً تتمسكون به ؟فطلعتم بفكرة "لن" بدل "لم" ومهما يكن من أمر جهلكم فإن استعمال القرآن للحرف "لم" لم يسمح لهذه النزغة الإبليسية أن تخطر على بال من يفهم شيئا من العربية ،لأن "لم" نفت كما ذكرنا منذ القدم حصول ولادة ووجود نِدٍّ أو شريك فكيف نتخيل حصول التثليث ،وهو لم يحصل البتة ؟! فإن كنت تريد هذا الفهم وتبيت على تلك النية الخبيثة، فآمل منك الذهاب إلى أطباء الأمراض العقلية والنفسية، فربما وجدوا علاجاً لغبائك؟ لأنك تتخيل وتتوهم وتتراءى لك الضلالات كأنها حقائق ثابتة فلا شك أن هذا مرض عقلي ونفسي.

والخلاصة أن "لن" لنفي المستقبل، ومعاني الآيات واضحة في أن النفي متجه نحو الماضي والحاضر، فيحصل التنافي والتضاد لو استعملت "لن" دون "لم" فتأمل أيها الجاهل.

- وربما تقول: لماذا لم يستعمل القرآن "ما " النافية بدل "لم" لاسيما أنكم تريدون نفي الفعل في الماضي، أي لماذا لم يقل : ما ولدَ وما وُلِد وما كان له كفوا أحد، فالجواب ذكره ابن يعيش بقوله:إن استعمال "لم" فيه زيادة فائدة ليست في "ما"، وذلك أن "ما" إذا نفت الماضي كان المراد ما قربَ من الحال ،-أي نفت الماضي القريب من الحال - ولم تنف الماضي مطلقاً، [12]ونحن لاشك نريد نفي الماضي المطلق الأزلي ،المستمر بلا انقطاع ،لذا جاءت "لم" وافية للغرض دون "ما" .

- وربما خطر ببالك أن تقول: لماذا لم يقل: ما يلد وما يولد.. إلخ أي يأتي بعدها المضارع وليس الماضي، فالجواب: أن "ما" النافية هي لنفي الحال، قال سيبويه: وأما "ما" فهي نفي لقوله: هو يفعل، إذا كان في حال الفعل، فتقول: ما يفعل [13] ونفي الحال في الآيات ليس هو الغرض كما ذكرنا، بل الغرض هو نفي الماضي ممتداً إلى الحال، فالفرق واضح.

- ولنفترض أنك تشدقت وقلت: لماذا لم يستعمل "لا" النافية يعني لِمَ لمْ يقل: "لا يلد ولا يولد ولا يكن له كفواً أحد ،فالجواب :أن "لا" لنفي المستقبل، قال سيبويه :وتكون "لا" نفياً لقوله : يفعل ، ولم يقع الفعل ، فتقول : لا يفعل [14] يعني إذا قلت :لا يقوم زيد، فمعناه كما يقول ابن الحاجب نفي القيام في المستقبل ، كما في "لن" [15] ،فلما كان الغرض من الآيات - كما ذكرنا - النفي الممتد من الماضي إلى الحاضر ،جاءت "لم" مؤدية هذا الغرض بدقة ،ويمكن أن نضيف إلى هذا السبب أن "لا" تستعمل للنفي المتنوع التراكيب والدلالات فهي في نحو: لا رجل في البيت، دخلت على اسم دالة على نفي الجنس نفياً عاماً، وفي نحو : لا يقوم زيد ،نفت المستقبل، فدلت بذلك كله على أن نفيها ليس مختصاً بقبيل معين فهي للعموم والشمول، فلما كان موضوع السورة الكريمة متعلقاً بأمر معين عظيم، وهو التوحيد النقي ،احتيج إلى حرف مختص بدلالة خاصة قاطعة، فكانت "لم" هي أولى حروف النفي في هذا المقام لاختصاصها بنفي الماضي المستمر إلى الحاضر ، يضاف إلى ذلك أيضاً أنهم قالوا :إن النفي بـ"لا " غير مؤكد [16] فاجتماع هذه الأسباب كلها تؤكد لنا سرًّا لاستعمال القرآني للحرف "لم" دون "لا" .وربما كانت الوظيفة النحوية وهو الجزم ،اختير لهذه الحكمة فالجزم يعني القطع ، فكأن القطع في هذا الموضع ضروري للتأكيد على أن النفي هنا – في الآيات الثلاث- قطعي لا يحتمل أي احتمال ، والسكون الذي جلبته "لم" يدل على ثبات الفكرة واستقرارها في العقول على مدى الأزمنة والعصور .

- وربما قلت: لِمَ لم يستعمل القرآن الكريم "حرف النفي "لمَّا" وهي أخت "لم" في كونها تشارك "لم" في الحرفية والاختصاص بالمضارع وجزمه وقلب زمانه إلى الماضي [17]

فالجواب :يقوله لك ابن هشام في أبسط كتبه النحوية :وهو أن لمَّا تؤذن كثيراً بتوقع ثبوت ما بعدها نحو "بل لما يذوقوا عذاب " أي إلى الآن لم يذوقوه وسوف يذوقونه و"لم" لا تقتضي ذلك [18] يعني أنه لو استعملت "لما" لانتقض الغرض الذي تؤكده السورة، وهو أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفء ماضيا وحالا إلى زمن التكلم غير منقطع ، ولا يتصور حدوثه في المستقبل، لأنه لم يحصل في الماضي ولا في الحاضر وقت التكلم ،فهل رأيت يا هذا إحكاماً للغرض وللمعنى المراد في أي كتاب سماوي آخركما رأيته هنا في اختيار "لم" دون "لما" ودون حروف النفي كلها.

وإلى هنا نكون قد بينا لك أن كل حروف النفي في العربية "لن وما ولا ولما " لا تؤدي الغرض من الآيات الثلاث "لم يلد" الآيات "ما عدا "لم" فكأنها خُلقت لتقرير عقيدة التوحيد في هذه السورة الكريمة ، ولاشك أن هذا درس لك في العربية لعلك تستفيد منه علماً، فيه الصدق وفيه الدقة، ولعلك تدرك أيضاً أن القرآن الكريم معجز في استعمال الحروف، وفي استعمال الكلمات، وفي استعمال التراكيب اللغوية، فإذا أدركتَ أنت ومن معك تلك الدقة القرآنية في استعمال الحرف "لم" دون غيره من حروف النفي، فربما تستحون، فتتوقفون عن الحديث في القرآن الكريم لأنكم جهلة فإن أبيتم إلا الصعلكة اللسانية والحركات البهلوانية ،فنحن بهدوء نقول لكم ما أخبرنا به قرآننا عنكم قال تعالى :" "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " "أفأنت تسمع الصم ""أفأنت تَهدي العُميَ" ووصفكم بالقول : "إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون" نعم تتبجحون بجهلكم وأنتم لا تفقهون شيئاً ثم قال محذراً لك يا رشيد ولأمثالك "قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ، متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون "أخيراً لعلك ترعوي يا هذا وإلا فإن طنين أجنحة الذباب لا يضير .

[1] - الكتاب 4/220

[2] - شرح المفصل 8/110

[3] - فتح القدير 5/517بتصرف يسير

[4] -شرح التسهيل 4/64

[5]- النحو الوافي 4/416

[6] - النحو الوافي 4/418

[7] - الكشاف 1228

[8] - فتح القدير 5/517

[9] - شرح المفصل 8/111

[10] - الكتاب ، 4/220

[11] - لكننا نفينا ذلك بأن استعمال "لم" يفيد عدم حدوث التثليث قديماً

[12] - شرح المفصل 8/110

[13] - الكتاب 4/221

[14] - الكتاب 4/222

[15] - الإيضاح في شرح المفصل 2/215وانظر شرح المفصل لابن يعيش 8/،109

[16] - ملتقى أهل اللغة الفرق بين "لا" النافية "و"ما" النافية من حيث المعنى ، بشار الشيخو

[17] - شرح قطر الندى ،114

[18] - شرح القطر 115

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين