تعقيب العلامة الزرقا على محاضرة الدكتور حسن حنفي

تعقيب على محاضرة للدكتور حسن حنفي حسنين في ملتقى الفكر الإسلامي الخامس عشر في الجزائر (2 ـ 5 ذو القعدة هـ الموافق 1 ـ 7 سبتمبر 1981م) :

بسم الله الرحمن الرحيم

إخواني الكرام:

لعلِّي ينطبق عليَّ ما يقال: أَحِب الموت تُوهَب لك الحياة، ازهد في الدنيا تُوهَب لك الدنيا، فلعل هذا تطبيق لذلك، حيث إن سيادة الوزير وسَّع في الوقت واقترح هو أن أعود إلى استرداد حقّي. فشكراً.

إخوتي: كان في نفسي أمور كثيرة من الأمس، ولكني واتِّباعاً لملاحظة فضيلة الرئيس ألا يكرَّر ما قيل، فإنني قد أسقطت من ذهني كثيراً من القول؛ لأنه قد قيل. وإن فضيلة الأستاذ محمد الغزالي، والأستاذ محمد المبارك، أغنياني عن كثير ممَّا كنت أريد أن أقول.

ولكني أحبُّ أن أُبقي على بعض لقطات أعرضها على أخينا المحاضر الأستاذ حسن حنفي حسنين، وإنما أريد أن أُصوِّر ما يمكن أن يستخلصه القارئ الخالي الذهن، من المحاضرة إذا قرأها، ماذا تعطيه من انطباع، ولكني لا أتهمه في أنه يريد مدلول ما كتب، إني أحسن الظن، ما دام من الممكن تحسين الظن، وأعتقد أنه لم يكن يريد حقيقة ما كتب، ولكن لكي نُنَبِّهه إلى ضرورة استدراك ما كتب، يجب أن نُصوِّر له ما يُستفاد من كلامه.

فأولاً: لا أريد أن أتتبَّع كل ما قيل، ولكني أريد أن أمسك ببعض اللقطات، فمحاضرته يقول فيها:

إننا لا يجب أن ننظر ـ أو بهذا المعنى ـ في التفسير إلى ما يتعلق بعالم الغيب، وإنما نريد في التفسير البحث في عالم الشهادة، لا في عالم الغيب.

يا أخي الكريم: أنت تطلع علينا بنصيحة تُوجِّهنا فيها، وتُوجِّه أناساً من أقطاب علماء المسلمين في مختلف بقاع الأرض، الذين هم أكثر منك اختصاصاً، وعلماً، وعمقاً، ومعرفة بعلوم الشريعة، تأتي لتقول لهم: أهملوا جانب الغيب في القرآن وأمسكوا بعالم الشهادة.

أنت تنصح هؤلاء الأقطاب بذلك، والله سبحانه يقول في أول كلمة من قرآنه العظيم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، الله يأمرنا ويصف المؤمنين المتَّقين بأن أول صفاتهم أنهم يؤمنون بالغيب، فإذا حذفنا الإيمان بالغيب أين نصل؟ نصل إلى أن يتساوى المؤمن والكافر سواء بسواء.

الإسلام دعامته الإيمان بالله وبصفاته، ووحدانيته، وباليوم الآخر، لولا اليوم الآخر، لولا عقيدة اليوم الآخر، ماذا بقي من فرق بين المؤمن والكافر؟ بين المطيع العاصي؟

تبقى رياضة فكريَّة، رياضة فلسفيَّة، يتمتَّع بها الإنسان، هذا يؤمن بأن هناك إلهاً، وذاك لا يؤمن بهذا، والنتيجة ما هي إذا حذفنا عالم الغيب والإيمان بالآخرة، وهي رأس الأمور الغيبيَّة، عندئذٍ ماذا يبقى من فرق بين المؤمن والكافر؟

النتيجة تصبح مجرد اختيار فكري رياضي، هذا يرى الفلسفة الفلانية، وهذا يرى الفلسفة الفلانية، فقوام الحياة التي أراد الإسلام إصلاحها بهذا الكتاب العظيم الخالد، قوامها الإيمان بالغيب الذي أوله وأعظمه ورأسه الإيمان بالآخرة يوم الحساب، والثواب، والعقاب، الذي يضبط أعمال الإنسان إذا آمن به، ويجعل من نفسه على نفسه رقيباً، ويحاسب نفسه ويضبط سلوكه.

لولا ذلك لاستوى المؤمن والكافر في النتيجة، فأنت تدعو إلى إهمال البحث في أمور الغيب في تفسير كتاب الله.

والله تعالى يجعل أول صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، فمن نتَّبع؟ كأنك شعرت أنَّ كثيراً مما أتيت به عليه لون ماركسي، ولذلك قلت سوف يقال: إن هذا تفسير ماركسي... إلخ ـ والواقع كذلك ـ بمعنى أن كل من يقرأ محاضرتك لا يخرج منها إلا بأنك تريد أن تُزلق الفكر الماركسي وتدسَّه في تفسير القرآن، ثم تقول: إنك قد غزَوْتَ أكابر علماء المسلمين بشجاعة، وأزلقت بينهم الفكر الماركسي بجرأة.

إني لا أتَّهمك بأنك تقصد هذا، ولكني أتكلم كلاماً ـ مجرَّداً ـ عما يفهم من محاضرتك هذه لمن يقرؤها وهو خالي الذهن، فأنت إذن ـ أيها الأخ ـ تقبل أن يقال: إنك تريد أن تزلق الفكر الماركسي بين علماء الإسلام الأقطاب المجتمعين.

وأُجِلُّك عن أن ترضى لنفسك أن يقال بأنك تريد هذا؟ فهذا الأسلوب الذي سلكته في محاضرتك لا أعتقد إلا أنه يجعل منها لأول نظرة محاضرة هدَّامة، هدَّامة، بكل معنى الكلمة.

أقول بجرأة وبدون تَحَاش، ولا اتَّهمك بهذا، ولكني أتكلم عن محاضرتك في ذاتها، فهذه المحاضرة لو قُبلت لكانت من أكبر الأمور الهدّامة في مثل هذا الهدف النبيل الذي يجتمع له هذا الملتقى الكريم.

ولذلك وتبعاً لما ذكره الإخوة، كنت أريد أن أقترح ما اقترحه الأستاذ المبارك، أن يُقرَّر عدم إدخال هذه المحاضرة في أعمال الملتقى، ريثما تُراجع فيها نفسك، وتُعيد النظر فيها، فتقوِّم ما فيها من اعوجاج، وتحذف ما فيها من ضلالات ـ واسمح لي إن قلت ذلك ـ وبعد ذلك تُقدِّمها في مناسبة أخرى تكون فيها مقبولة.

كتاب الأصالة: ملتقى القرآن الكريم، محاضرات ومناقشات ملتقى الفكر الإسلامي الخامس عشر في الجزائر ، الجزء الثالث (ص 92 ـ 94).

وهي ضمن " مقالات العلامة الزرقا" التي ستصدر بعناية الشيخ مجد مكي المشرف على الموقع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين