تعقيبات على الدكتور بشار معروف 1 - 2

كنت وقفت قبل نحو خمسة أشهر، في إحدى صفحة مجموعات الواتس، على هذا التسجيل المرئي للدكتور بشار معروف(1)، يقول فيه محاوره: ابن خَلدون اعتبر أن أبا فرج الأصفهاني من أصفهان، وأنه فارسي.

فهشَّ لذلك الدكتور، وضحك كما يضحك الكبار على أغاليط الصغار، وقال بالحرف: [ابن خَلدون وقع في غلطة شنيعة حقيقة، لجهله في علم الرجال، وجهله في تراجم العلماء، وبالحضارة الإسلامية...]

ثم قال الدكتور عن ابن خَلدون: [هو لم يعلم أن أبا الفرج الأصفهاني أموي، وأن مسلم بن الحجاج قشيري، وأن أبا داود السجستاني أزدي، لم يفهم هذا، ظن أن أصحاب الكتب الستة كلهم من الأعاجم.. وهذه غلطة كبيرة حقيقة وقع فيها ابن خلدون..] انتهى كلام الدكتور بشار معروف.

------------

فكتبت تعقيبا عليه:

سبحان الله!!

ما هذا التطاول على قامة سامقة كابن خلدون.؟!!

ابن خلدون رائد علم الاجتماع، جاهل بالحضارة الإسلامية؟!!

ابن خلدون يجهل أن أبا الفرج الأصفهاني أموي؟ وأن مسلم بن الحجاج قشيري؟، وأن أبا داود السجستاني أزدي؟..

ابن خلدون يظن أن أصحاب الكتب الستة كلهم من الأعاجم..؟!

لله در أبي العلاء المعري إذ يقول:

إذا وَصَفَ الطائيَّ بالبخل مادرٌ

*** وعيّر قُسًّا بالفهاهة باقلُ

وقال السهى للشمس أنت خفيةٌ

*** وقال الدجى يا صبحُ لونك حائلُ

وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهةً

*** وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادلُ

فيا موتُ زرْ إن الحياة ذميمةٌ

*** ويا نفس جِدّي إن دهرك هازلُ

 

ابن خلدون رحمه الله، كتب بنفَس إسلامي واقعي متجرد عن كل شيء إلا الحقيقة.

ولم يكتب بنفَس قومي منتن.

ابن خلدون نشأ في كنف ثقافة الأمة الواحدة التي لا تُفَرقها الأقطار ولا الألوان ولا الألسن، ولم يَتَرَبّ في كنف الفكر القومي العربي الذي ابتدعه مثقفو النصارى العرب، لحاجة في نفوسهم لا تخفى على كل مسلم يَعتَدُّ بالانتماء للإسلام.

وأما ما عَدَّه الدكتور بشار معروف، أخطاء شنيعة من ابن خلدون، فهي تُهم باطلة شنيعة من قائلها، على طريقة: "زَنَّاه فرجمه".

فأما قول الدكتور: (ابن خلدون يجهل أن أبا داود السجستاني أزدي) (ابن خلدون يظن أن أصحاب الكتب الستة كلهم من الأعاجم).. 

فلست أدري أين وجد هذا في كلام ابن خلدون!

نعم قال ابن خَلدون في مقدمته: [ثم كتب أبو داود السجستاني، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، في السنن بأوسع من الصحيح، وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل.. إلخ] اهـ

لكن لم يقل أحد، ولا يقول منصف، إن تسمية هؤلاء الأئمة بما اشتهَروا به من نسبتهم إلى مدنهم في بلاد العجم.. تعني نفي الأصل العربي عنهم، أو إثباته.

وما زال أهل العلم وطَلَبَتُه في كل زمان، كما في هذا الزمان، يقولون: رواه "البخاري". رواه مسلم بن الحجاج "النيسابوري". رواه أبو عيسى "الترمذي". رواه أبو داود "السجستاني". رواه أبو عبد الرحمن "النَّسائي". رواه ابن ماجهْ "القَزويني".

وكلهم منسوبون - كما ترى - إلى بلدان أعجمية؛ لكن هذه النسبة لا تعني عند أهل العلم ولا عند أهل العُرف، حكمًا بنَسبٍ أعجمي ولا عربي.

وإنما هي مجرد تعريفٌ بالمصنَّف الحديثي الذي يُنسب إليه الحديث الذي يُراد الاستشهاد به، وتمييزٌ له عن غيره من المصنفات. لا أكثر.

وأما نَسَبُ صاحب هذا المصنَّف أو ذاك، فيُبحث عنه في كتب التراجم والأنساب.

ونظير ذلك قولنا مثلا: قال صهيب الرومي رضي الله عنه. أو: قال أبو مسعود البدري رضيالله عنه. فنحن هنا نريد تمييز القائل بما اشتَهَر به، وليس التعريف بنسبه.

فما كان صهيب رومي النسب، وإنما هو عربي نَمَرِيٌّ، ينتهي نسبه إلى النَّمِر بن قاسط، لكنه نشأ في الروم صغيرا بمقتضى سبيهم له، فكان في كلامه لُكْنَة، فقيل له: "الرومي".

وما سُمِّي أَبُو مَسْعُوْدٍ "عُقْبَةُ بنُ عَمْرِو الأنصاري الخزرجي، "بدريا" لأنه شهد بدرا، وإنما لأنه سكنها، على ما جزم به ابن سعد في الطبقات، وصححه الذهبي في السِّيَر.. على خلافٍ في ذلك.

فإن كان الدكتور بشار معروف قد وجد نصا من كلام ابن خلدون، يؤيد اتهامه إياه بأنه يظن أن أصحاب الكتب الستة كلهم من الأعاجم.. فليدلنا عليه.

وإلا فهي تهمة باطلة مردودة على مدعيها.

بل قد جاء في تاريخ ابن خلدون، ومقدمة تاريخه، بنص كلامه، ما يشهد ببراءته من تلك التهم المفتراة.

وبيان ذلك:

أولا: قال الدكتور بشار في انتقاصه لابن خلدون: (ابن خلدون يجهل أن أبا الفرج الأصفهاني أموي)

وأقول: لستُ أدري أين وجد هذا في كلام ابن خلدون.!

فإن الذي وجدتُه في كلامه ينفي تلك التهمة، ويُثبت عكسها نصًّا.

فقد قال ابن خلدون في تاريخه، في سياق أخبار الخليفة الأموي الأندلسي، الحَكَم بن عبد الرحمن الناصر ت 366 هـ: [وكان يبعث في الكتب إلى الاقطار رجالا من التجار، ويُسَرِّب إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الاندلس ما لم يعهدوه، وبعث في كتاب الاغاني إلى مصنِّفه أبي الفرج الأصفهاني، "وكان نسبه في بنى أمية" وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العَين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق] انتهى. انظر تاريخ ابن خلدون (4/ 146)

فهذا نص كلام ابن خلدون في تاريخه، على أن أبا الفرج الأصفهاني أموي النسب.

فكيف يتهمه الدكتور بأنه يجهل أن أبا الفرج الأصفهاني أموي؟!!

هل هناك تحامل أوضح من هذا؟

ثانيا: قال الدكتور: (ابن خلدون يجهل أن مسلم بن الحجاج قشيري).

وأقول: لستُ أدري أين وجد هذا في كلام ابن خلدون.!

فإن الذي وجدتُه في كلامه ينفي تلك التهمة، ويُثبت عكسها نصًّا كذلك.

قال ابن خلدون في مقدمته، عند كلامه عن تاريخ علوم الحديث الشريف:

[ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج "القشيري" رحمه الله تعالى، فألف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منها. وجمع الطرق والأسانيد، وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه..] انتهى. انظر مقدمة ابن خلدون (ص: 254)

فهذا نص كلام ابن خلدون على أن مسلم بن الحجاج قشيري النسب.

فكيف يتهمه الدكتور بشار معروف بأنه يجهل أن مسلم بن الحجاج قشيري؟!!

وماذا وراء هذا الاتهام البيٍّن البطلان؟ وماذا وراء هذا التحامل والتطاول، من الرسائل والدلائل؟

والجواب: إنه اعتلال الدكتور بشار بمرض القومية العربية، الذي انتقلت إليه عَدواه من عمه الدكتور ناجي معروف، صاحب كتاب "عروبة العلماء" رحمه الله وغفر له، فحمل ذلك المرض، الدكتورَ صاحب التسجيل، على الاستياء من قول ابن خلدون في مقدمة تاريخه: (إن حمَلة العلم في الملة الإسلامية جلهم من الأعاجم) وكأنه رأى في ذلك سُبة، فرمى ابن خلدون بالجهل والشناعة وسوء البضاعة، كما رأينا في هجومه في هذا التسجيل.

ولعل الدكتور بشار يعلم أن ابن خَلدون (ت 808 هـ) لم يكن أول من رصد تلك الظاهرة في آخر القرن الثامن الهجري.

فقد سبقه إلى ملاحظتها منذ النصف الثاني من القرن الأول، الخليفة الأموي الأشهر عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ)

وقد سبق لي أن ناقشت هذه القضية في مقال مسهَب تحت عنوان: (أنساب علماء الإسلام) وهو منشور على صفحتي في الفيس قبل نحو أربع سنوات.

تجدون رابطه في التعليق الأول.

والله أعلم.

وكتبه: إبراهيم يوسف المنصور.

في الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام، لعام 1445 من الهجرة الشريفة.

الموافق: 30/5/2024



*********

(1)         للاطلاع على الفيديو المشار إليه على الرابط التالي:

https://www.facebook.com/100002851155291/videos/1615176845940576 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين