تَعِس عبد الموضة - الموضة وما تفعله

تَعِسَ عَبْدُ المُوْضَة


    مِن جماليات وشمولية التشريع الإسلامي والنظام الاجتماعي فيه أنه وضع الأسس التي ينطلق منها المسلم فيما يتعلق باللباس، ولأهمية هذه القضية وآثارها سلباً أو إيجاباً فقد ورد فيها آيات وأحاديث كثيرة، ولا يكاد يخلو كتاب في الفقه أو الحديث عن باب يبيّن أحكامها.
    فاللباس من المنظور القرآني نعمة مَنَّ الله بها على الآدميين؛ فهو مَظْهرٌ للكرامة الإنسانية: يَسْتُر العورة ويبعث الراحة ويزيِّن الإنسان بالقَدر الذي يتطلبه الموقف والمَقام ?لِباساً يُواري سوءاتكم ورِيْشاً?، وهو يحفظ الإنسان من حدَّة أشعة الشمس ويدفئه عند البرودة القارصة ويحميه مما يترتب عليهما من سرطانات جلدية وأمراض عصبية: ?وجَعل لكم سَرابيل تَقِيْكُمُ الحَرَّ?، ومنه الدُّروع الواقية في المعارك أيضاً: ?وسَرَابيل تَقِيْكم بَأْسَكم?.
    وقد لَبِس رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الألوانِ الأخضرَ والأحمرَ والأسود وكان يحب البياض. ولبس الإزار والرِّداء والحُلَّة  - ثيابٌ مِن قطعتين كالطَّقم - والعِمامة وكان أحبُّها إليه القميص - كالجَلابية -. ولبس الثياب من الشَّعر والقُطن. وكان يحب الثياب التي عليها الزخارف والرسوم إلا رسم ما له روح. ولَبِس صلى الله عليه وسلم الثياب المَحَلِّيَّة والمستورَدة مالم تكن شعاراً دينيّاً لغير المسلمين.
    وكان صلى الله عليه وسلم  يُرْشد أصحابه إلى الأناقة وتحسين هيئاتهم إلى حدِّ التميّز في النظافة والترتيب, وخاصة في المناسبات واللقاءات والمَجامع العامة؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في إحدى الأسفار: "إنكم قادمون على إخوانكم فأَصْلِحوا رِحالَكم [أي مَرَاكبكم] وأحسِنوا لِباسَكم، حتى تكونوا كأنَّكم شامَةٌ في الناس؛ فإنّ اللهَ لا يحبُّ الفُحْشَ ولا التفحُّش" رواه أبو داود. فَحُسْن المَظْهَر يعكس حُسن الباطن والمَخْبَر، ويُعين على الاتِّزان والصحة النفسية، وأما التفحش بترك الترتيب والنظافة فيتعارض مع الفطرة. وعندما سأل أحدُ الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: إن أحَدَنا يحب أن يكون ثوبُه جميلاً ونَعْلُه جميلاً؟! أجابه صلى الله عليه وسلم: "إنّ اللهَ جميلٌ يُحب الجَمال"... فهو قد يؤجر على ذلك إذا قصد تطبيق الهَدْي النبوي والتنعُّم بفضل الله عليه ففي الحديث: "إن الله يحب أَنْ يَرى أثَرَ نِعمَته على عبدِه" رواه الترمذي وقال: حسن.
    هذه أهم المبادئ التي ينبني عليها التشريع الإسلامي فيما يخص اللباس، ولكنه لم يُغْفِل الاحتراز والتحذير من سلبيات قد تُلازمها أو تَلْزم وتَنْتُج عنها؛ فكلُّ لباسٍ حلالٌ مباحٌ إلا ما كان فيه أو معه شيء من الأوصاف الممنوعة شرعاً (وقد انتشرت في هذا الزمان واستفحل خطرها)؛ وأهم الأوصاف الممنوعة شرعاً في اللباس:
1.    تحوّله إلى غاية وهدف: بدل اعتباره وسيلة إلى ستر العورة والأهداف المشروعة الأخرى، فكَمْ من شاب أو فتاة يسابق إلى تلقُّف آخر الموضات, ويعيش أسيراً لِمَنتوجات أشهر "الماركات", ومتابعة عُروض الأزياء ومجلات "الصَّرْعات" وما يتطلب ذلك من هَدْر للأوقات والأموال والعواطف إلى حدّ "العِبادة"، وصَرْف الإنسان المكَرَّم عن أهدافه النبيلة في حياته، فينحصر هَمُّه في الموضة يسعى لمجاراتها ولو بالحرام، وينسى ربه ومستقبله وأن الدنيا مَزْرَعة الآخرة. وقد صوّر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحالة بقوله: "تَعِسَ عبد الدينار والدرهم والقَطيفَةِ [الثوب المُخْمل] والخَمِيصة [ثوب الحرير أو الصوف الفاخر] إنْ أُعطي رَضِيَ وإن لم يُعْطَ لم يَرْضَ" رواه البخاري.
2.    التكبُّر والخُيلاء والزُّهو: وهو شعور دَنِيْءٌ قد يعتري الإنسان عند لبس الثياب الجميلة الفاخرة والرِّياش، ولذلك قال الله تعالى بعد ذكرها في القرآن ?ولباسُ التقوى ذلك خَيْرٌ?. وقد أكثر النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من مظاهر المتكبرين وأسباب المباهاة، وكان أهمها في عصره: إطالة ذيل الثوب إلى ما تحت الكعبين وجَرُّه، فبيَّن أن فِعْل ذلك بقصد الكِبْر والخُيَلاء من كبائر المحرَّمات التي تُغضب الله تعالى فقال: "مَن جرَّ ثوبه خُيَلاءَ لم يَنظر اللهُ إليه يوم القيامة" رواه البخاري. وربما لم يَعُدْ جَرُّ الثياب من مظاهر الكِبْر في بعض المجتمعات، ولكن يقاس عليها كلُّ مَظهر يَجِدُّ في الأعراف الاجتماعية يُدخل على صاحبه هذا الشعور عادة.
3.    الشُّهرة ولفت الأنظار: وقد يكون بارتداء الألوان الفاقعة والفوسفورية - وذلك مرتبط بالعادات والأعراف - أو الأشكال المستغرَبة، فإنْ لم يكن الداعي إلى ذلك مصلحةٌ اجتماعية كتميِيْز أصحاب المِهَن والاختصاصات، بل كان بقصد التعالي والشُّهرة فهو من المَنْهِيَّات عنه.
4.    عَدَمُ سَتْر العورة: فبعض الناس قد يلْبَس الثياب "الرقيقة" التي تشف عما تحتها أو "الضيِّقة" التي تحجِّم الأعضاء أو "القصيرة" التي لا تستر كامل العورة، فيكون بذلك الفعل قد أخلّ بأهم وظيفة للثياب؛ كما في الآية: ?يا بَنِيْ آدمَ قد أَنزلنا عليكم لِباساً يوارِي سوءَاتِكم? واستغنى عن إحدى مِيْزات آدميّته! وعورة المرأة أمام الرجال: كلُّ جسدها عدا الوجه والكفين. وعورة الرَّجُل أمام النساء: ما بين السُّرَّة إلى الركبة أما عند عدم الحاجة والضرورة فالأدب يقتضي ألا يكشف الرَّجُل الصدر والظهر أمامهن. وهذا يحمي كِلا الطرفين ويضبط مشاعره وسلوكه.
5.    الإغراء والإغواء: فقد يكون الثوب ساتراً للعورة وليس ثوبَ شهرة، ولكن يَقصد منه صاحبه إغراء الجنس الآخر وفِتْنَته بجَماله، وهذا بلاءٌ عامّ في مجتمعاتنا ورَكيزة في ثقافة الجاهلية المادية المعاصرة؛ فالموضة الأكثر مبيعاً اليوم هي الأكثر جاذبية للجنس الآخر، ولا تستخدم لتحقيق السعادة الزوجية وتثبيت قواعد الأسرة، بل لِهدْم القيَم والعَفاف والمجتمعات! فالهاجس الذي يشغل تفكير كثير من الشباب والشابات هو: كَمْ جاذبيةُ هذا الثوب للجنس الآخر؟ وكم سيزيد مِن المعجَبين أو المعجَبات بي؟ وهو ما تراعيه وتَنتهجه شركات الإعلان والتسويق بوضوح. وبما أن إرضاء الناس غاية لا تُدْرَك فحَسْبك أن ترضيَ ربَّك.
6.    كونه زِيّاً دينيّاً لغير المسلمين: وعندها لا يجوز لبسه لأنه يكون تعبيراً رمزيًّا عن الانتماء إليه والقناعة به، بل قد يصل الأمر إلى كُفْرِ لابِسِه - والعياذ بالله - إذا كان يَعْرف أنه شعارٌ ديني وإن لم يقصد الكفر كَلُبس الصليب مثلاً. فهذه مسألة مهمة جداً تغيب عن ذهن الكثيرين. ومثلها في الحرمة لُبس أزياء وشعارات الأحزاب ذات المبادئ والأيديولوجيات غير الإسلامية، فيجب التنبّه والتنبيه لذلك!
7.    كونه زِيّاً للفسقة والمنحرفين: اشتهروا به ولو كانوا من عُصاة المسلمين، فلا يليق بمن لا يوافقهم في المَنهج أنْ يعرِّض الناس لسوء الظن به؛ كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَقِفَنَّ مواقِفَ التُّهَمَة).
8.    أن يكون عليه صورة أو رسم لذي روح: حيواناً كان أو إنساناً فتُكْرَه الصلاة بها. أما إذا كانت الصورة للفسقة الذين قد يسمَّون أحياناً "النجوم" أو فيها كشف عورة: فلا يجوز في الصلاة ولا في غيرها.
    وبالتزام هذه الضوابط يلبِّي الإنسان حاجاته الفطرية؛ من حب الجَمالِ وسترِ العورة بما يعود عليه بالراحة النفسية والسعادة ويبعده عن الأمراض الجسدية, ويحرّره من التقليد الأعمى المبني على عقدة النقص, ومِنْ ذُلّ العبودية لغير الله... دون أن يتسبب في هَدم أُسرته أو أُسَر الآخرين, أو في إصابتهم بالقلق وتَشتيت التركيز الذهني والهَوَس الجنسي والغَرَق في الرذائل والفواحش، ويكون هذا أَحَد الإسهامات الفعّالة في استقرار المجتمع ونظافته، وإلا فسننام ونستيقظ على حلقات جديدة من مُسلسل (تَعِسَ عَبْدُ المُوْضَة)!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين