تعريف بكتب علي الطنطاوي:  (1) صور وخواطر

 

لما كنت شاباً صغيراً كان هذا كتابي المفضلَ من مجموعة مؤلفات جدي التي أهدانيها وأنا في نحو الثالثة عشرة، ولطالما استمتعت بقراءة مقالاته وضحكت منها، وما زلت أراه جامعاً لبعضٍ من أطرف وأظرف المقالات التي كتبها، بالإضافة إلى بعضٍ من أنفعها وأكثرها انتشاراً.

فمقالة "يا بنتي" طُبعت مفردةً في رسالة صغيرة أكثر من مئة مرة، وربما زاد ما طُبع منها على نصف مليون نسخة. أما قرينتها، "يا ابني"، فليست أقلّ منها نفعاً وفائدة وإن تكن أقل ذيوعاً وانتشاراً. والمقالتان من رسائل مسجد الجامعة، وهي رسائل كان يصدرها مسجد جامعة دمشق لمّا كان له شأن في الدعوة والإصلاح في خمسينيات القرن الماضي.

وقد دأب المسجد على إصدار رسائل صغيرة (يوزعها على الناس مجاناً أو يبيعها لهم بثمن يسير) تهدف إلى المساهمة في الإصلاح والدعوة إلى الله بأسلوب حسن ولغة يفهمهما العامة، وكان بعضها تدويناً لبعض ما كان يُلقى في المسجد من خُطَب. وكانت رسالة "يا بنتي" أولى تلك الرسائل، نُشرت أول مرة عام 1956 ثم أُعيد نشرها مرات ضمن رسائل المسجد وعشرات المرات رسالةً مفردةً من بعد. وقد أعاد الأستاذ زهير الشاويش رحمه الله إصدار مجموعة "رسائل مسجد الجامعة" في ثلاثة أجزاء عظيمة النفع جليلة الفائدة (تحدث فيها عن المسجد ورسائله حديث المطّلع الخبير) وأبقى على رسالة "يا بنتي" متصدرة للرسائل لأنها الأولى صدوراً.

* * *

في هذا الكتاب عدد من المقالات الطريفة التي أكاد أجزم أن أحداً لا يملك أن يقرأها بغير أن يقهقه ضاحكاً منها، فإن كنتَ قارئها -ولا بد- فاقرأها خالياً حتى لا يعجب الناس من تفاعلك معها. فمن ذلك مجموعة مقالات الأعرابي: "أعرابي في حمام" و"أعرابي في سينما" و"الأعرابي والشعر".

ومن المقالات الطريفة "ديوان الأصمعي"، وهي من أكثر المقالات ابتكاراً وطرافة، وقد بلغ من دقة حبكتها وقوّة سردها أنْ ظنها أحد الأساتذة حقيقة وبنى عليها فصلاً لغوياً نشره في بعض المجلات (كما ورد في حاشية على المقالة في طبعة حديثة من الكتاب)! ومنها مقالة "شهيد العيد" التي نشرتُها في مجلة أصدرتُها لمّا كنت طالباً في المدرسة الثانوية فعجب منها مَن قرأها من الطلاب، ولن أتحدث عنها بل أدع كشفها لمن لم يعرفها من قبلُ من القرّاء.

ومنها مقالة "مجانين"، وفيها مجموعة من أخبار "عقلاء المجانين"، من مثل خبر الجاحظ الذي "نسي كنيته وطفق يسأل عنها حتى جاءه ابن حلال بالبشارة بلقياها فقال له: أنت أبو عثمان! فهل كان الجاحظ عبقري الأدب ولسان العرب مجنوناً؟". وكثير من مثل هذه القصص الطريفة أترك لكم قراءتها في موضعها. على أنّ في المقالة موعظة لطيفة ونصيحة صادقة: "فإذا كان في الدنيا جنون عبقرية وجنون مارستان فإن جنون الهوى هو جنون الإجرام، لا سيما إذا كان على الطريقة الفرنسية. فيا أيها الشباب الصغار، إذا لم يكن بُدٌّ من الجنون فلنُجَنّ بالمعالي والمكارم أو لنسكن المارستان".

وفي الكتاب مقالات من الأدب المحض، منها "مرثية غراي" التي قرأها عليه -كما ذكر في أولها- صديقُه حيدر الركابي فصاغها بالعربية، و"القبر التائه" و"وقفة على طلل" و"كتاب تعزية". وهذه الأخيرة مقالة مؤثرة مُبكية، كتبها جواباً لأم شاكية حزينة فأفاض في وصف أحزان أمه ومعاناة طفولته.

وفيه مقالات فلسفية منها: "السعادة" و"بيني وبين نفسي" و"بين البهائم والوحوش" و"لا أؤمن بالإنسان" و"رقم مكسور".

ومقالات اجتماعية منها: "تسعة قروش" و"اعرف نفسك" و"في الترام" و"في الحب".

* * *

وأختم هذا العرض الموجز بمقطع من مقالة "أنا والإذاعة"، وهي أول حديث أذاعه علي الطنطاوي من إذاعة دمشق بعد افتتاحها سنة 1947، قال فيه:

"... وإذا هم يدخلونني من دهليز إلى دهليز، حتى انتهيت إلى زاوية مظلمة، فأشاروا إلى باب وقالوا: هُسْ، إياك أن تتكلم أو تعطس أو تسعل أو تخبط برجلك أو تدق بيدك أو تُخَشْخِش بأوراقك! قلت: فكيف إذن أتحدث؟ قالوا: إذا جاء دورك تكلمت. ورأيت مكتباً ما عليه إلا علبة قائمة على عمود من الحديد وقد وقف أمامها شاب يصوّت أصواتاً بعضها يخرج من حلقه وبعضها من صدره وبعضها من بطنه، ويتخلّع ويتلوّى مع النغمات، فأجهدت ذهني خمس دقائق كاملات لأعرف ماذا يصنع هذا الرجل: أيغني أم يخطب أم هو مصروع معتوه يخلِّط، فلم أهتدِ إلى حقيقته. ثم سكت وتقدم من العلبة أحد موظفي المحطة فقال: لقد انتهت الحفلة الموسيقية. فقلت: إذن هي حفلة موسيقية؟ سبحان القادر على كل شيء! وأقبل الموظف عليّ فأشار بيده إلى حيث كان يقف الشاب صاحب الأصوات المخنثة، فقلت: ماذا؟ أأعمل أنا أيضاً حفلة موسيقية؟ قالوا: هس.. هس! وأدار مفتاحاً كمفتاح الكهرباء وجعل يكلمني بلسانه بعد أن كان يتكلم بيديه وقال: تفضل يا أستاذ، اقعد وتكلم. قلت: أتكلم مع مَن؟ أين المستمعون؟ قال: تكلم هنا... وأشار إلى العلبة. قلت في نفسي: أعوذ بالله من شر هذه الغرفة! لقد حسبتها سجناً مغلقاً فإذا هي بيمارستان! أأكلم علبة؟ أمجنون أنا؟ وبحثت عن مهرب فلم أجد، وفتشت عن نصير فلم ألقَه، فاستسلمت للمقادير وقعدت، وشرعت أكلم العلبة كالمجانين"!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين