تعديل سلوك الطفل في ضوء الهدي النبوي

يحمل الآباء همَّ أولادهم في حياتهم وبعد موتهم، والله يتولى رعايتهم بتقوى والديهما؛ فيقول سبحانه: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (النساء: 9).

تكثر شكوى الآباء من السلوكيات السلبية للأطفال، وعندما تضيق بهم السُّبل يلجأ كثير منهم إلى التعامل معهم بأسلوب غير تربوي بالضرب للردع، ووصم الطفل بألفاظ سلبية، مثل: أنت مهمل.. أنت شقي.. أنت غبي.. إلخ، دون إدراك أن هذا الأسلوب يؤثر عليهم نفسيًا، ويسبب لهم أضراراً تنعكس على شخصيتهم وعلاقاتهم الاجتماعية.

إن حاجة الوالدين إلى الإلمام بالأساليب التربوية والنفسية تساعدهم في التعامل مع سلوكيات أطفالهم بأسلوب تربويّ؛ فحاجة الطفل إلى التعامل معه بأسلوب تربوي أهم من حاجته المادية؛ فتشير الدراسات التربوية والنفسية إلى أن 90% من قيم وسلوكيات الإنسان تتشكل تبعًا لما يتلقاه من التربية في المراحل الأولى من طفولته.

والإرشادات السلوكية التي تضمنتها المراجع النفسية الحديثة قد تعامل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، وظهر أثرها الإيجابي في سلوكهم، ولدينا أمثلة تطبيقية كثيرة في السُّنة النبوية يصعب حصرها في تلك السطور؛ لذا سوف نقتصر على بعضها.

1-           العاطفة:

 إن الارتباط النفسي بين الآباء والأبناء ينبغي أن ينطبع في صورة لفظية وملموسة؛ فحاجة الطفل النفسية لسماع كلمات الحب من الوالدين لها تأثير كبير في راحته النفسية ورفع معنوياته، وهي من أنجع الوسائل في تعليمه، فعبارات الحب وما يدل عليها مثل تقبيله ومشاركته اللعب والمرح تجعل الطفل يرتبط بالوالدين ارتباطًا وثيقًا، وتكون استجابته لما يطلب منه سريعة؛ ومن وسائل تعديل السلوكيات السلبية التي يريدها الآباء، بينما القسوة والعنف تولد طفلًا مضطربًا نفسيًا وعنيدًا.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا في ذلك؛ فكان يقبّل الأطفال ويشاركهم اللعب والمرح، فيقول أنس بن مالك: «ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله»(1)، وتقول عائشة: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبّلون صبيانكم؟! فقالوا: نعم، فقالوا: لكنّا والله ما نقبّل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة!»(2)، وكان يأخذ أسامة بن زيد والحسن ويقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»(3).

وليس معنى ذلك الإفراط في حب الأبناء أن ننساق وراء رغباتهم حتى لا نغضبهم، فرغم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة لم يستجب له عندما أرسله القوم ليشفع في عدم إقامة حد السرقة على المرأة المخزومية لشرفها ونسبها، وعاتبه عتابًا شديدًا بقوله: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله يا أسامة؟!»(4).

 

2-           التعزيز:

يقصد به الثناء على السلوكيات الإيجابية للطفل، وقد يكون بالابتسامة أو بالمدح أو الدعاء له أو إظهار السرور عند رؤيته مما يحفز ذلك السلوك؛ فيعمل على تنميته، ويخلق لديه الاعتزاز والثقة بالنفس بصورة إيجابية تجعله يتصرف وفقًا لها؛ فعبارات المدح من الوالدين تبعث في الطفل الأمل والشعور بالراحة النفسية(5).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتدح الفعل الحسن من الأطفال، فعندما فطن عبدالله بن عباس وهو غلام إلى حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الماء ليتوضأ أحضره له دون أن يُطلب منه ذلك، فمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمله، ودعا له بقوله: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل»(6).

ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت وهو غلام له من العمر ثلاث عشرة سنة يحفظ سبع عشرة سورة؛ فأعجبه حفظه وذكاءه؛ فطلب منه أن يتعلم السريانية؛ فأتقنها زيد في نصف شهر؛ فكان يكتب ويقرأ بها، وكان من كتَّاب الوحي وحفظة القرآن، وصار عالمًا بالفتوى والمواريث(7).

 

3-           الإطفاء:

 يقصد به التجاهل المنظم والتغافل عن بعض السلوكيات السلبية التي يفعلها الطفل بدافع عاطفي، أو إعراضه عن بعض السلوكيات الإيجابية؛ فمحاسبة الطفل على كل صغيرة وكبيرة تسبب له ضغطًا نفسيًا له أضراره(8).

وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيروي أنس بن مالك، فيقول: كان رسول الله أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب! وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله؛ فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك! فقال: «يا أُنيس: أذهبتَ حيث أمرتك»! قال: قلتُ: نعم، أنا أذهبُ يا رسول الله(9).

وقد تفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة أنس انسياقه العاطفي للعب مع أقرانه؛ فاللعب الجماعي للأطفال وسيلة من وسائل تنمية الذكاء الاجتماعي للطفل وفقاً لما تشير إليه الدراسات النفسية.

 

4-           التلقين:

يحتاج الطفل إلى مساعدة إضافية بالتوضيح أو الشرح أو التلميح، وقد تكون هذه المساعدة لفظية بهدف التوجيه والإرشاد إلى طريقة أداء العمل، أو جسدية أو إيمائية من خلال الإشارة باليد أو الأصابع أو الرأس أو النظر أو تغير في ملاح الوجه لبيان السرور أو الغضب، والتلقين عامل حاسم في تشكيل السلوك ومساعدة الطفل على تأدية السلوكيات والأعمال التي يريد القيام بها تلقائياً(10).

وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه على استخدام «التلقين» كوسيلة من وسائل تعليم الأطفال، فكان عمر بن أبي سلمة وهو غلام يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرك يده يميناً ويساراً في إناء الطعام، ولا يقتصر على موضع واحد؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سمّ الله، وكل بيمينك وكل مما يليك»(11)، ويقول عمر بن أبي سلمة: فما زالت تلك طعمتي.

وهناك أساليب كثيرة استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسهمت في تشكيل سلوكيات الأطفال، وكان لها تأثر كبير في دافعية السلوك الإيجابي، وأساليب أخرى في خفض السلوكيات السلبية.[1]



[1] (1) مسلم بشرح النووي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2019، كتاب الفضائل، باب رحمته بالصبيان والعيال وتواضعه، ج15، ص 109حديث رقم 2316.

(2) مسلم بشرح النووي، كتاب الفضائل باب رحمته صلى الله عليه وسلم وتواضعه 15/ 110، رقم 2317.

(3) فتح الباري: كتاب مناقب الصحابة، باب مناقب أسامة بن زيد7/ 94، رقم 3747.

(4) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار،6/513، رقم 3475، مسلم بشرح النووي؛ كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود،11/ 267، رقم 1688.

(5) تعديل السلوك الإنساني: د. جمال الخطيب، دار حنين للنشر والتوزيع، عمان، 1423هـ/ 2003، ص 182.

(6) اقتصرت رواية البخاري على «اللهم فقهه في الدين» فتح الباري: كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، 1/ 244 رقم 143؛ بينما زادت رواية أحمد رقم 2879: «وفقهه في الدين».

(7) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، تحقيق: على محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، 1412هـ/ 1992، 2/ 593.

(8) تعديل السلوك الإنساني، ص 243.

(9) صحيح مسلم بشرح النووي؛ كتاب: الفضائل، باب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، 15/ 102، رقم 2310.

(10) تعديل السلوك الإنساني، ص 215.

(11) فتح الباري: كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، 9/ 431، حديث رقم 5061.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين