تصحيح المفاهيم وتقويم الموازين ـ 2 ـ

الشيخ مجد مكي

صحَّة أعمال الإنسان واستقامة تصرُّفاته منوطة بصحة مفاهيمه واستقامة موازينه.
وإنَّ اضطراب الموازين واختلال المفاهيم في واقع المسلمين هو إحدى العلل الكبار في حياة المسلمين وما هم عليه من ضعف وهوان وخروج عن منهج الإسلام.
لابدَّ أن نعرض نفوسنا على ميزان القرآن...فإذا رأينا توافقاً وتطابقاً حمدنا الله عزَّ وجل وثبتنا على ما عندنا، وإن رأينا غير ذلك حملنا أنفسنا على المنهج السليم ليسلم ديننا من الزيغ والزلل.
1 ـ مفهوم الفوز والفلاح:
مفهوم الفوز والنجاح عند عموم الناس لا يتجاوز الظفر بمتع الحياة الدنيا من شهادة، أو وظيفة، أو منصب، أو جاه، أو مال، أو مسكن مريح، أو امرأة جميلة، أو طعام لذيذ، أو عيش رغيد، وغير ذلك مما يتعلق بشهوات الجسد... وهذا المفهوم له أثر كبير في واقع المسلمين، فانطلقوا إلى تحصيل هذه الأشياء وإن أدى بهم إلى ارتكاب الحرام، ومخالفة أحكام الإسلام، والتفريط بحقوق المسلمين وموالاة الأعداء...
أما مفهوم الفوز والفلاح عند المؤمنين فهو: النجاة من عذاب الله والظفر بالجنة: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185}.
هذا هو الفوز الحقيقي في ميزان الإسلام، وميزان العقل، وميزان الحساب وما نسبة متاع الدنيا الفاني إلى نعيم الجنة السرمدي الباقي؟!...
وما قيمة ما يحوزه الإنسان في عمره القصير؟! يقول صلى الله عليه وسلم :(إنَّ موضع سَوْط في الجنة لخيرٌ من الدنيا وما فيها. اقرؤوا إن شئتم : [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185} ) رواه الترمذي (2939) وقال : حسن صحيح.
 ويقول صلى الله عليه وسلم : (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه ـ وأشار إلى السبابة ـ في اليم فلينظر بِمَ ترجع)؟! رواه مسلم (5101).
ومفهوم الفلاح عند المؤمنين هو التحقق بأوصاف المفلحين التي ذكرها الله تعالى في كتابه : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200} .
[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104} .
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الحج:77} .[وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الأعراف:8} .
2 ـ مفهوم الربح:
مفهوم الربح عند الناس أن تأخذ أكثر مما تعطي، وتحصل أكثر مما تبذل، وهذا المفهوم قاصر على أمور الدنيا.
أما المفهوم الحق للربح فهو ربح الحسنات لا ربح الريالات ، ربح المواقف والقيم لا ربح المكاسب والمواقف.
هذا صهيب الرومي حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم: أرأيتم إن أعطيتكم مالي أتخلون سبيلي؟ فقالوا: نعم، فقال: أشهدكم أني قد جعلت لهم مالي، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ربح صهيب ربح صهيب) رواه ابن حبان:في صحيحه (7082)
صهيب رضي الله عنه لم يربح درهماً ولا ديناراً، بل خسر في ميزان الصيارفة وعُبَّاد المال، لكنه في ميزان الإسلام رابح، ربح الحسنات بهجرته وقُربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
3 ـ ميزان الخيريَّة والتفاضل:
أكثر الناس يقيسون الناس في أفضليتهم وخيريتهم بما لديهم من مال ومنصب وجاه، والسعيد عند كثير من الناس من ظفر بالمال ولذائذ الحياة:[فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] {القصص:79}  وهذا المشهد يتكرَّر في كل زمان و عصر...
وأما الميزان الصحيح للخيرية والتفاضل هو التقوى :[ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13} . وكلما ازداد المؤمن من الأعمال الصالحة ترقى منزلته ورفعته ومكانته عند ربه .
يقول صلى الله عليه وسلم: (لَغَدْوةٌ في سبيل الله أو رَوْحة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري (2583) ، ومسلم (3492) 
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : قال رجل يا رسول الله : أي الناس أفضل ؟! فقال :(مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال : ثم من ؟ قال : رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه عزَّ وجل، ويدع الناس من شرِّه) أخرجه أحمد (10894).
وبهذا الميزان : ميزان السبق ف الأعمال الصالحة ، والكلم الطيب ، والجهاد في سبيل الله ، والأسبقية في ذلك يقدَّم أهل الفضل والسابقة.
روى البخاري (2668) في صحيحه أنَّ عمر رضي الله عنه قسَّم مروطاً ( كساء) بين نساء من نساء المدينة فبقي مرط جيِّد ، فقال له بعض من عنده : أعط هذا ابنة رسول الله التي عندك ـ يريدون أم كلثوم بنت علي ـ فقال عمر : أم سُلَيْط أحقُّ ، فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تزفر لنا القِرَب يوم أحد قال البخاري : تزفر : تخيط.
فعُمر رضي الله عنه يَزنُ تلك المرأة في خيريتها وفضلها بما كان منها من مشاركة في الجهاد ، وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقدِّمها في العطاء.
وما أشدَّ حاجتنا اليوم إلى تصحيح كثير من المفاهيم الفكرية ، وتقويم عدد من الموازين السلوكية.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين