تسجيلُ الدَّين وأداؤه

ألقيتها صباح يوم الأربعاء 25 من شعبان 1376 من محطة إذاعة حلب، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد.

فإن حديثي إليك اليوم هو: تسجيل الدَّين وأداؤه.

إنَّ الله جلت حكمته شرع للناس ما ينفعهم ويفيدهم، وتقتضيه مصالحهم وحاجاتهم، وحرَّمَ عليهم ما يضرهم أو يؤذيهم، ويسيء إليهم في دينهم أو دنياهم.

وكان من جملة ما شرع الله للناس أنواع التعامل التي ترتكز عليها حياة المجتمع، من بيع وشراء، وإجارة وكفالة، وقرض وحوالة، ورهن وهِبَةٍ، وغير ذلك من صنوف التعامل الكثيرة، التي تدور في أعمال الناس، ويقوم عليها معاشهم وارتزاقهم، وإذا أردنا أن ننظر إلى لون من ألوان التعامل لا تكاد تخلو منه معاملة من معاملات الناس اليوم، وجدنا ذلك اللون هو الدَّين، وهو موضوع حديثنا اليوم.

قال الله تعالى في سورة البقرة:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.

هذه الآية الكريمة تسمى آية المداينة، وهي أطول آية في القرآن الكريم، وقد تضمنت أحكاماً كثيرة، كلها ترتبط بالمال والدين، وتوثيق الحقوق بين الناس، فعلَّمنا اللهُ فيها أن المداينة بين الناس ينبغي أن يُضرب لها أجل، وأن يُكتَبَ بالدَّين كتابٌ على وجه واضحٍ بيِّنٍ عادلٍ، لا لبس فيه ولا غموض، وأن الكاتب يجب عليه أن يكتب بالحق كما علَّمه الله، كما عليه أن يتقي الله تعالى فيما يسجل، غير باخسٍ ولا زائد منه شيئاً، حتى إذا كان الذي عليه الحق سفيها، أي إنساناً فاقدَ الرأي لا يحسن التصرف في المال، أو كان الذي عليه الحق ضعيفاً، وذلك كالصغير والهرِمِ المُسِّن، أو كان الذي عليه الحق لا يستطيع أن يُمِلَّ هو، أي لا يستطيع أن يملي ويسجل الحق الذي عليه، لجهله أو مرض فيه من لُكنَةٍ أو خَرَس أو نحوهما فإذا كان كذلك، فليُمْلِ وليُّ من لديه إحدى هذه الصفات نيابة عن الذي يملي عليه، بالعدل الذي شرعه الله سبحانه.

ثم يأمرنا الله عز وجل باستشهاد شهيدين على ذلك من الرجال ذوي الدين والعدالة، لزيادة الضبط والتثبت ودفع التناكر والجحود، فإن لم يتيسر للشهادة رجلان، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، خشية أن تنسى أو تخطىء إحداهما فتُذَّكِرَ إحداهما الأخرى، ثم حذَّر الشهداء من كتمان الشهادة والامتناع عن أدائها، ونَبَّهَ سبحانه إلى أن الحق أو الدَّين ينبغي أن يُسَّجَّل ويُكتَب، سواء كان صغيراً أو كبيراً إلى أجله الذي ضُرِبَ له، دفعاً للتنازع ونفياً للخصام والاختلاف، ثم بَيَّنَ جل شأنه أن هذه الخطة التي رسمها في تسجيل الحق وحفظ الدين، هي الخطة العادلة عنده سبحانه، وهي الطريق الأقوم في ضبط الشهادة وسلامتها، وهي الأبعد عن الارتياب والاشتباه، ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾، ثم قال سبحانه: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾، والتجارة الحاضرة هي التي لا دين فيها، بأن يدفع المشتري الثمن نقداً، ويسلِّمُه البائعُ المبيعَ في الحال، فلا يجب في مثل هذه التجارة الحاضرة كتابتها والإشهاد عليها، وإنما الكتابة والإشهاد فيها من باب الأحب والأفضل الذي يستحسن فعله، وإلى جانب هذا فقد أوصى الله سبحانه الكاتب والشهيد أن لا يُضارَّا أحداً من المتعامِلِين الذين قد يلجأون إليهما في التجارة الحاضرة، وأوصى الكاتب والشهيد وغيرهما بالتقوى وترك الفسوق فقال:﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.

أيها المستمع الكريم: أنظرتَ إلى هذه الآية الكريمة الطويلة الجامعة، وإلى هذه الأحكام الكثيرة العظيمة التي تضمنتها؟

إنها نزلت في أمر واحد من أمور التعامل في المجتمع، هو الدَّين. ذلك لأن موقع الدَّين في المجتمع موقع حساس خطير جداً، فإذا استهان إنسان أو تساهل في أمره، كان مِنْ ذلك عليه وعلى أمته الويلات الكثيرة، من تنازع وخصومات، ومشاحنة وبغضاء، ومقاطعة وهجر، وشُغْلٍ للحاكم والمحاكم بالنزاع والخصومات المقطِّعة للأواصر والمفرِّقة بين القلوب، وهذا ما لا يرضاه الإسلام ولا يُقِرُّ عليه.

ومن المؤسف جداً أن نرى بعض الناس اليوم يتساهلون في أداء الدَّين الذي عليهم، فيماطلون في الوفاءِ ويسوِّفُون، أو يحتالون الحيل الكثيرة لإبطال الحق الذي عليهم وللتملص منه، ويسعون جاهدين أن ينجوا من عقاب القضاء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولقد غاب عن أذهان هؤلاء أنهم بسلوكهم هذا، أو احتيالهم على إضاعة الحق الذي عليهم، قد جانبوا الإيمان الذي يربط بينهم وبين الله عز وجل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: لا يؤمِنُ أحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. فكيف إذا كان مغتصباً لحق أخيه، ومستولياً عليه بالباطل والظلم والاحتيال!

ولقد أخبر الرسول الكريم عن مثل هؤلاء بأن الله تعالى يبادلهم بعملهم هذا التلف والخسارة، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَخَذَ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى.

وهذا طرف من عقاب المماطل بالدين، أو المحتال لإبطاله، فقد جاء في حديث آخر إلى جانب هذا الحديث إهدارُ كرامة المماطل وإسقاطُ اعتباره واحترامه، وأنه يستحق العقوبة الزاجرة له عن هذه الصفة الذميمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَـيُّ الواجِدِ - أي تسويفُ القادر على الوفاء – يُـحِلُّ عِرْضَه وعقوبته. فأباح الحديث الشريف أن نقول عن إنسانٍ هذه معاملتُهُ مع الناس: إنه سيء المعاملة، مماطل بأداء الحق مُسَوِّفٌ محاوِل. ولا نكون بهذا القول مغتابين ولا مؤاخَذين على ما نقول، كما أباح هذا الحديث الشريف للحاكم عقوبةَ المماطل بما يكون له عقوبة، فله أن يحبسه أو يضربه أو يضاعف الدَّين الذي عليه زجراً له وعقاباً، لأنه بعمله هذا قد أغلق باب التعاون والائتمان بين الناس، وسَلَبَ منهم الثقة والمؤازرة، وأورثهم حَرَجاً وشدة وجعلهم لا يأتمن بعضهم بعضاً، فهو الظالم لنفسه ولدائنه ولمجتمعه كله، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَطْلُ الغنيِّ ظلم. أي تأخير الوفاء مع القدرة عليه ظلم، نعم ظلمٌ وأيُّ ظلم؟!

وإذا كنا نرى الإسلام يهدر كرامة المماطل القادر على الوفاء، ويبيح عقوبته، ويعده ظالماً، فقد جاء إلى جانب هذا كله أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يؤتى بالرجل المتوفى ليصلي عليه، فيسأل: هل عليه دين؟ فإن قيل: لا. صلى عليه، وإن قيل: عليه دين. قال: صَلُّوا على صاحبكم.

بل لقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن الجهاد والموت في سبيل الله لا يُكفِّرُ اللهُ بهما الدَّين، روى مسلم في صحيحه عن أبي قَتَادة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في الناس فيقول: إن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال. فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيتَ - أي أخبرني - إن قُتِلتُ في سبيل الله تُكفَّرُ عني خطاياي؟ فقال له رسول الله: نعم، إن قُتِلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر. ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل السائل: كيف قُلتَ؟ قال: قلتُ: أرأيتَ إن قُتِلتُ في سبيل الله أتُكَفَّرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدَّين. يعني فإن الله لا يغفره للمَدِينِ ولو مات شهيداً، وهذا صريح قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: يُغفَرُ للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين. فإذا علمنا أن الشهادة في سبيل الله والموت في مرضاته لا يُكفِّرُ اللهُ بهما الدَّين، علمنا عِظَمَ موقع هذا الحق عند الله تعالى، وعلمنا أيضاً بطلان ما يزعمه بعض الناس من أن الإنسان إذا كان عليه دين وجحده على صاحبه ثم حجَّ يُغْفَرُ له بحجه هذا الحق المغتصب! كلّا ثم كلّا، كيف وقد بيَّنَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم استيفاء الحقوق على أنواعها يوم القيامة فقال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إنَّ المفلسَ من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكلَ مال هذا، وسفكَ دم هذا، وضربَ هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرِحَت عليه ثم طُرِحَ في النار.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً من الذين يؤدون الحقوق على وجهها ولا يظلمون الناس شيئاً، ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من كتاب" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين