تسابقا في الاتهام

محمد رشيد العويد

 
أجل ؛ تسابقا في الاتهام ؛ ليسبق كل منكما صاحبه في الاتهام ، وليست هذه الدعوة مخالفة لتحذيرات سابقة صدرت عني ودعوت فيها الزوجين إلى أن يتجنبا تبادل الاتهامات ؛ وذلك لأنني اليوم لا أدعو الزوج والزوجة إلى أن يتهم كل منهما صاحبه بالتقصير والإهمال وعدم الحب وفقدان التقدير وغياب الشكر ... وغيرها من التهم التي يتبادلها الزوجان عادة ، إنما أدعوهما اليوم إلى أن يسبق كل منهما صاحبه في اتهام نفسه بأمر قبل أن يتهمه به صاحبه .
ولأوضح ذلك بهذا المثال :
وعد عمر زوجته بأن يرافقها لزيارة أهلها في الساعة السابعة مساء بعد أن يعود من عمله الذي ينتهي في السادسة والنصف . وتحل الساعة السابعة دون أن يعود عمر كما وعد زوجته . وتمضي الدقائق ثقيلة على الزوجة وهي تنتظر زوجها في ضيق وغضب وخاصة أنه لم يتصل بها ليعتذر لها مبيناً سبب تأخره . بل حتى حين بادرت هي بالاتصال به وجدت هاتفه مغلقاً .
سبب تأخر الزوج أنه فوجئ بمديره في العمل يدعو جميع العاملين لاجتماع طارئ في الساعة السادسة وأبلغهم في بداية الاجتماع أنه لن يستمر أكثر من نصف ساعة . وطلب منهم إغلاق هواتفهم حتى لا تشوش عليهم اجتماعهم . وبدأ الاجتماع ، لكنه لم ينته كما وعدهم المدير في الساعة السادسة والنصف ؛ بل استمر حتى الثامنة .
فور انتهاء الاجتماع اتصل عمر بزوجته التي ما إن سمعت صوته حتى صرخت فيه غاضبة : وعدتني أن تكون هنا في السابعة والآن الساعة الثامنة وأنت مازلت خارج البيت !!؟
رد عمر على صراخ زوجته بصراخ قال فيه : افهمي أولاً لماذا تأخرت : لقد كنت في اجتماع مع المدير .
واصلت الزوجة المغضبة صراخها : ما هذا العذر يا أخي ! أما كنت تستطيع الاتصال ؟! تتركني أنتظر وأنا في كامل لباسي !!
ثار غضب الزوج أكثر وهو يقول لها : يا مجنونة افهمي .. المدير أمرنا أن نغلق هواتفنا .
ردت الزوجة في غيظ شديد : أنا مجنونة يا سليط اللسان ... الحق عليَّ أنني صدقت وعدك وانتظرتك .. قل إنك لا تريد زيارة أهلي .. أنا أعرفك .. لو كانت الزيارة لأهلك لكنت هنا قبل السابعة !
يغلق الزوج هاتفه في وجه زوجته .
هل كان يحصل ما حصل بين عمر وزوجته لو كان سبقها في اتهام نفسه قبل أن تتهمه هي بما اتهمته به ؟!
 
 
تعالوا ننظر كيف سيكون الحوار بين عمر وزوجته لو كان بدأه باتهام نفسه بأنه المسؤول عن تأخره في العودة إلى زوجته كما وعدها :
فور انتهاء الاجتماع اتصل عمر بزوجته التي ما إن سمعت صوته حتى صرخت فيه غاضبة : وعدتني بأن تكون هنا في السابعة والآن الثامنة وأنت مازلت خارج البيت ؟!!
رد عمر على زوجته وصراخها بقوله : من حقك أن تقولي أي شيئ .. وأن تصرخي بصوت أعلى من هذا .. المدير وعدنا أن ينتهي الاجتماع في السادسة والنصف .. لكنه ما التزم بوعده هذا .. وجعلني من ثم أعجز عن أن أفي بوعدي لك .. ؟!
قالت الزوجة في صوت أخفض لكنه مازال ممزوجاً بالألم : وتتركني في كامل ثيابي أنتظر دون أن أعرف شيئاً عن سبب تأخرك ..
قال الزوج متعاطفاً : والله طوال الاجتماع وأنا أفكر فيك وخاصة بعد أن بدأت الساعة تتجاوز السابعة .. تمنيت لو أنني أستطيع الاتصال بك . لكن المدير الفهيم أمرنا بإغلاق هواتفنا ومنعنا من استعمالها .
الزوجة : فعلاً .. لقد حاولت الاتصال بك فوجدت هاتفك مغلقاً .
الزوج : هذه واحدة لك علي .. سامحيني .
الزوجة : ما ذنبك أنت .. إنه مديرك الـ ......
الزوج : دعينا منه يا حبيبتي .. دقائق وأكون أمام البيت لأصطحبك إلى أهلك نسهر عندهم الليلة .
 
لم يوفق عمر في الحوار الأول حين رفض اتهام زوجته له ؛ بينما نجح في الحوار الثاني في التخفيف من غضبها حين قَبِلَ اتهامها ، وأعذرها فيه ، بل أكد أنه من حقها أن تقول أكثر مما قالته ، وأن تصرخ بصوت أعلى .
أخطأ عمر في الحوار الأول حين رد على صراخ زوجته بصراخ مثله بدأه بكلمة (( افهمي ..)) التي تضايق أي زوجة تسمع زوجها يخاطبها بها ، بينما نجح في الحوار الثاني حين أبدى تعاطفه مع زوجته التي جلست تنتظره .. وكيف أنه كان يفكر فيها طوال الاجتماع .
واصل عمر إغضابه لزوجته حين خاطبها بقوله (( يا مجنونة .. )) في الحوار الأول ، بينما وجدناه في الحوار الثاني متهماً مديره ساخراً منه حين وصفه بـ (( الفهيم )) : ( تمنيت لو أنني أستطيع الاتصال بك .. لكن المدير الفهيم أمرنا بإغلاق هواتفنا ) .
ختم عمر أخطاءه بإغلاق هاتفه رافضاً الإنصات لزوجته في الحوار الأول بينما نسب الخطأ إلى نفسه في الحوار الثاني وجعل زوجته محقة حين قال لها : هذه واحدة لك علي .. سامحيني .
نحتاج كثيراً تقدير معاناة الآخرين ولو لم نكن سبباً فيها ، والتعاطف مع أحزانهم دون إخضاعها لعقولنا ، والتخفيف عنهم ومواساتهم ولو اتهمنا أنفسنا .
 
 
 
أرجو من الأزواج والزوجات أن يتقنوا جميعاً هذه المهارة ، مهارة اتهام الذات قبل أن يتهمه الزوج الآخر ، فإن في ذلك وقايـة من شجارات كثيرة كان يمكن أن تقع لتوصل إلى نتائج غير محمودة .
ولا شك في أن إتقان هذه المهارة يحتاج إلى تدريب كثير ، وصبر كبير ، ومراغمة للنفس التي يصعب عليها أن تظهر مخطئة مقصرة وهي ترى صاحبها غير مخطئ أو مقصر .
وهذه المهارة تحتاج ذكاء عاطفياً لا ذكاء عقلياً ، لأن الذكاء العقلي يقيس الأمور بمنطقية عقلانية لا تنفع في كثير من الأحوال ، بينما الذكاء العاطفي أقدر على كسب الطرف الآخر وإزالة أسباب ضيقه وغضبه وحزنه .
لي صديق ذكي جداً ، ولقد طلق امرأتين بسبب عدم احتماله ما فيهما من عوج عاطفي ، ومازال يخفق في كسب ود زوجته الثالثة التي ماتزال على ذمته ، وذلك لمناقشاته العقلية دائماً معها ، ومحاكمة تصرفاتها وكلماتها وردودها محاكمة منطقية .
ولقد دعاني يوماً لأحاول مصالحته مع زوجته ، فتأكد لي سبب إخفاقه في تحقيق الوفاق مع زوجته الحالية وزوجتيه السابقتين ؛ إنه يستعمل ذكاءه العقلي وحده .. مهملاً تماماً الذكاء العاطفي الذي من وسائله اتهام النفس ، والاعتذار ، وتطييب الخاطر ، والمواساة .
كنت أنبهه ، بعد ذلك ، إلى أخطائه في التعامل مع زوجته ، وصرت أعينه في كتابة بعض الرسائل الهاتفية لزوجته ، وأكتب له بعض الردود على رسائلها إليه .
بعد أشهر قليلة تحسنت حياته الزوجية كثيراً ، وكسب مودة زوجته ، بعد أن أبعد ذكاءه العقلي وقدَّم عليه ذكاءه العاطفي .
وهذا ما أرجو أن نحرص عليه جميعاً ؛ أن نستعمل ذكاءنا العاطفي لكسب ود زوجاتنا واتقاء نفورهن منا وكراهيتهن لنا .
من العبارات التي يحسن أن نستعملها كثيراً في مخاطبتنا لهن (( حقك عليّ )) ، (( أنـا الغلطان )) ، (( ما يصير خاطرك إلا طيباً )) ، (( سامحيني )) ..
اسبقوا زوجاتكم فاتهموا أنفسكم بما تتوقعون أن يتهمنكم به ، فتطفئون بذلك ناراً قبل أن تشتعل وتحرق جميع مشاعر المودة والرحمة والحب .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين