تركيا بين مطرقة العلمانيين وسندان الإسلاميين

 

تشكّل تركيا الموضوع الساخن المثير للجدال لجميع الأطراف إعجابا أو نقدا وأعتقد أن الطرفين الإسلامي والعلماني في العالم العربي يخطئان ولو جزئيا في نظرتهما إلى تركيا الحديثة. العلمانيون العرب لا زالوا يصرّون بعناد لا عقلاني أن هذه هي تركيا العلمانية نفسها التي أنشأها أتاتورك وأن نجاح حزب العدالة والتنمية يعود فقط إلى النظام العلماني (أكثر مما يستعملون تعبير الديمقراطية)... وهذا صحيح إلى حدّ ما ولكن هؤلاء لا يجيبون على التساؤل بأن تركيا كانت علمانية قبل مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بسنوات طويلة ولم تجنِ إلا الفقر والفساد وتراجع الخدمات للشعب فما هو الفرق بين تلك العلمانية وهذه وما الذي طرأ على المعادلة السياسية في تركيا منذ سنة 2002؟ 

بعض الإسلاميين من طرف آخر يصورون تركيا الآن وكأنها دولة الخلافة الإسلامية ويتجاهلون وصف حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان نظام حكمهم بالعلمانية. أنا لا أتكلم هنا عن الإسلاميين الذين يعادون أردوغان لأنه "لا يطبّق شرع الله" بزعمهم لكني أتكلم عن الإسلاميين المحبّين لأردوغان والمؤيدين له خاصة التيّار الإخواني. منذ أكثر من شهر أقيم مهرجان "شكرا تركيا" في اسطنبول وحضره جمع غفير من العرب الإسلاميين ولكني أعتقد أن كثيرا من مديحهم للرئيس أردوغان لم يُطْرِب الرئيس التركي نفسه أو المسؤولين الأتراك. إن المبالغة في امتداح التوجه الإسلامي لتركيا - رغم كونه صحيحا إلى حدّ ما - لكن فيه إغفال لحقيقة مهمة وهي أن تقدم الدولة مبني على الأسباب "الدنيوية" التي سار عليها حزب العدالة والتنمية وتعلموا من إخفاقاتهم وإخفاقات الآخرين قبلهم سواء في تركيا أو خارجها على مبدأ الحديث الشريف (لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين) وعلى أخذهم بالأسباب والسنن التي لا تحابي المؤمن. هذا النّفَس فيه إحراج للقيادة التركية عدا عن أنه غير دقيق تماما فهو يدعم مزاعم أعداء حكومة العدالة والتنمية داخليا وخارجيا في وجود أهداف بعيدة المدى لإعادة الدولة العثمانية (أو الامبراطورية كما يحلو لهم تسميتها) كدولة إسلامية عالمية في حين أن سياسة حكومة العدالة والتنمية تقوم على تنشيط الاقتصاد مع جميع الدول وكذلك مد جسور التعاون مع الجميع بما في ذلك الدول المسلمة خاصة تلك التي هي بحاجة ماسّة للمساعدة كالصومال. بعبارة أخرى يريد ذلك التيار الإسلامي من حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان أن يكونوا طبقا للصورة التي يرسمها ذلك التيار وليس ما يخطط له حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان.

والسؤال الذي يجب طرحه على أولئك الإسلاميين: إذا كنتم معجبين بالتجربة التركية فهل أنتم معجبون بالنظام السياسي التركي المتكامل والذي أتاح الفرصة لفوز حزب العدالة والتنمية أم أنتم معجبون بنتائجه بدءا من 2002؟ هل أنتم مستعدون للقبول بذلك النظام السياسي وتحديدا النظام الديمقراطي والعلمانية (النمط المحايد الذي لا يعادي الدين)؟ وهل أنتم مستعدون لقبول مفرزات ذلك النظام ونتائج الانتخابات حتى ولو أتت بغير ما تشتهون؟ لنكن صادقين مع أنفسنا فلا يصحّ أن نقبل بالآليات بشرط أن تعجبنا النتائج ، وهذا الكلام يسري على جميع الاتجاهات السياسية السورية وليس الإسلامية حصرا.

كذلك يُلحَظُ لدى السوريين والعرب المحبّين لتركيا المبالغة في التركيز على شخص أردوغان وفي هذا رواسب العقلية الديكتاتورية في مدح القائد وليس المؤسسة فالرئيس أردوغان رغم قيادته الشجاعة وشخصيته الكاريزماتية يدرك تماما أنه راحلٌ يوما ما لكن الدولة باقية لذلك فقد رسّخ أفكاره بحيث تستمر نهضة الأمة بعد رحيله. أنا لا أقلل من أهمية قيادة الرئيس أردوغان لحزب العدالة والتنمية والدولة التركية بل أقول وبكل فخر أنا أحد محبيه ، ولا أساوي بينه وبين الحكام الطغاة الذين فرضوا أنفسهم فوق إرادة شعوبهم وأجبروهم على التصفيق لهم ، الدولة أهم من الحزب ومن القائد وهذا المعنى أدركه الشعب التركي الذي هبّ هبّة رجل واحد استجابة لنداء الرئيس حين أدرك أن ديمقراطيته تتعرض للخطر فنزل إلى الشارع وتصدى لدبابات الإنقلابيين معرضا حياته للخطر ولكن شعاره كان علم الدولة وليس صورة القائد ، وعلى هذا الشعار اجتمعت التيارات السياسية المتصارعة كلها والتي لم تكن لتجتمع على صورة الرئيس.

الطريف في الأمر أن كلا الطرفين – المحب لأردوغان والكاره له - يلقبه بالسلطان: الكارهون له يفعلون ذلك للسخرية أما المحبون – وبالذات العرب الإسلاميون – فيفعلون ذلك تفاؤلا بما يحلمون به لكن الحقيقة أن أردوغان هو رئيس دولة مدنية ديمقراطية علمانية تداولية ، سيخلّده التاريخ على منجزاته وستتعلم الأجيال القادمة من شخصيته وتجربته ، لكنه لن يكون سلطانا ولن يعود نظام السلطنة بل ينبغي لذلك النظام الوراثي ألا يعود.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين