تدليس كريه

 

 

العلماء بالإسلام – في أيامنا هذه – قلة تدعو إلى الأسف والتوجُّس، ولا يخدعنك هذا الجمُّ الغفير من حَمَلة الشهادات الدينيَّة العالية، فإنَّ جمهورهم نال درجته العلمية على محصول من المعرفة قليل الغناء والجدوى، وعندي أنَّ (الأزهر) بحاجة ماسَّة إلى مراجعة مناهجه واختباراته العامَّة فإنَّ الغرابيل التي يمتاز بها الغثُّ والسَّمين قد زادت خروقها حتى أصبحت تنفذ منها الأحجار...!! 

ما معنى أن يوصف امرؤ بأنه (عالم) بالإسلام وهو لا يحفظ كتاب الله أساس الوحي ودستور الإسلام؟ ولا يُدرك سُنَّة رسول الله وهي معالم الهدى ومنار الطريق؟ ولا يعرف أدب العرب وهو عدة البيان العالي والتعبير البليغ؟ ولا يشرف على المجتمع الذي يعيش فيه لأنه يلهث في مساربه وخوافيه...؟! 

وهَبْه حفظ من القرآن أجزاءً، ومن السنة نبذاً، ومن أدب اللغة فصولاً، بل هبْه استوعب حقائق ذلك كله، فما انتفاعه منه إذا كان مريض القلب واللب؟! 

وما انتفاع الإسلام بهذا الصنف من العلماء إذا كانت تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا تغلغل فيه...

 لئن شكونا من قلة العلماء، إننا لنشكو من طائفة أخرى، طائفة احترفت العلم فبدلاً من أن تتهذب به، وتهذِّب به الناس، أخذت تسخِّره في الدنايا، وهكذا وجدنا في هذه الأيام العجاب من ينقل الإسلام إلى أصحاب الشهوات؛ ليزيد ضراوتهم بالحياة، وفتكهم بالدنيا، بدل أن ينقل هؤلاء المرضى إلى الإسلام ليصحُّوا في جوِّه، ويبصروا على سناه..!! 

وإليك هذه الأمثلة المضحكة المبكية... 

يتجمع بعض النسوة ليحاربن مبدأ تعدّد الزوجات، وليُثرن شغباً مفتعلاً على رئيس وزارة تزوج (سكرتيرته)، فإذا عالم قميء يخرج من شقوق الأرض ليقول: (نعم الإسلام يحارب تعدد الزوجات)، ويصفِّق له نفر من الصحافيين، ومن أدعياء الإصلاح الاجتماعي، وتسمع هؤلاء وأولئك يقولون: (هذا هو العالم المجدد!!)

 هو عالم مجدد لأنه يرضى الزنا بالخليلة ويكره الزواج بالحليلة!!

 هو عالم لأنه ركَّب من النصوص أدلة تحظر تعدد الزواج على طريقة الشاعر الهازل:

ما قال ربك ويل للألى سكروا   =   بل قال ربك : ويل للمصلينا

 الله تعالى يقول :[ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ...] {النساء:3}  ، ويقول : [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ ...] {النساء:129} . من هاتين الآيتين نفهم أن التعدد حرام، كما فهم أحد الشعراء العابثين أن الخمر حلال، لأن أبا حنيفة يبيح النبيذ، ومالك يقول النبيذ والخمر سواء فقال:

أباح العراقي النبيذ وشربه   =   وقال: حرامان المدامة والسكر

وقال الحجازي: الشرابان واحد=فحلت لنا من بين قوليهما الخمر!!

***

وهذا عالم آخر يرى بعض الأدباء الماجنين، وقد ضاق ذرعاً بشريعة الصيام، لأنه ضيق الصدر بشرائع الإسلام كلها! 

فيخرج على الناس بفتوى تجعل الصيام هواية تتبع المزاج المرهف، فمن كان شغوفاً بالجوع والعطش صام، وإلا فليفطر جهاراً نهاراً ولا تحرج ولا ملام... وتخرج الصحف – التي طالما حرَّضت على البغاء، وطالبت الحكومة برفع الحظر عنه، والتي استنكرت تحريم القمار وعدَّت الإبقاء عليه ضرورة إنسانية – تخرج هذه الصحف وقد طبَّلت للفتوى الجليلة!! وسلكت صاحبها في عداد الأئمة الثائرين أو الخلفاء الراشدين، فإذا رأى الأزهر تأديب غلامه الذي مرق، صاحوا به من كل جانب: اتركه يا ظالم... اتركه يا متأخر... واقتحم الدكتور طه حسين  غبار المعركة بمقال عنوانه: حق الخطأ، قصد به إلى حماية التزوير على الإسلام، وزاد: أن لهم – أعني لهؤلاء المفتين المزورين – أجر الخطأ فيما قالوه بعيداً عن الصواب...

* * *

إنَّ هؤلاء الناس أفسدوا حياتهم بالرذيلة والتحلل، فهل يريد هؤلاء اللاعبون بالفتاوى أن يسوغوا لهم محياهم، وأن يُرضُّوهم عن مسلكهم؟ 

هل نفسد الدواء نفسه ليبقى العليل أسير علته إلى الآن؟

 هل نشوِّه الإسلام ونحرف الكلم عن مواضعه لترضى نسوة ورجال أعرف – ويعرف غيري – أنهم ما تطهروا لله يوماً ولا أدَّوْا له صلاة، ولا خافوا له لقاء، ولا أقاموا له حداً، ولا احترموا له حقاً.

 إن الأرض حفلت بكثير من العصاة الذين قضوا شطر أعمارهم أو أغلبها في ظلام الإثم، حتى إذا انقشعت عنهم الغمَّة، وارتفعت عن أعينهم الظلمة، عادوا إلى دين الله تائبين، فعرفوا المعروف، وأنكروا المنكر، واستأنفوا مع ربهم علاقة أزكى وأنضر...

 فماذا عرا الدنيا حتى يحاول فَسَدتُها أن يجرَّوا الدين نفسه إلى عبثهم؟!!

 وماذا عرا العلماء حتى يسارعوا في هواهم ويرغبوا في رضاهم؟!!

 إنها فتنة، يبد أنها تثير الغثيان والمَضاضة. 

 

إننا نرمق كثيراً من أصحاب الأسماء اللامعة في ميادين الصحافة والفن والتعليم يحيَوْن كما يهوَون، غير حراص البتة على تعرُّف أحكام الله فيما يأتون ويذرون، وقد يستحي الواحد منهم أن يجهل تقليداً غريباً في أدب السلوك العام، بل في أدب الطعام والشراب، ولكنه لا يستحيي أبداً من أن لا يعي في تعاليم الإسلام حرفاً ولا يدرك منها إلا ما يتخيله ويرضاه، وقد لا نتعرض لهؤلاء إذا شربوا الخمور، واتخذوا الخليلات وضلوا الطريق – طول عمرهم – إلى بيوت الله طلباً لمغفرة أو إقامة لصلاة، نعم قد لا نتعرض لهم لأن ذلك ليس في طاقتنا... 

 

بيد أننا لا نسكت إذا حاول تارك الصلاة منهم أن يطعن في وجوبها، أو مفطر رمضان منهم أن يخدش من قداسة فريضته!! لن نسكت إذا حاولوا مدَّ آثامهم إلى نطاق الإسلام نفسه يبغون تشويه آياته وتقويض نظامه، وتحريف الكلم عن مواضعه، إن السكوت عندئذ لا يعني إلا إماتة الإسلام ومواراته الثرى، ووالله إن الحياة بعده هي الخسران المبين...

 

 ونعود مرة أخرى إلى علماء السوء الذين يزينون الإلحاد، ويمهدون بمقالاتهم طرق الفساد، نعود إليهم لنلفت الأنظار إلى خطورة تركهم يدلسون على الإسلام ويعوجون بدعته الكريمة. 

المصدر :

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 مجلة منبر الاسلام ،العدد 11 من  السنة الثانية عشرة، ذو القعدة 1374 .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين