تحويل الهَمّ إلى اهتمام

 

دعاءٌ منهجيٌّ خاشعٌ صدَرَ من فم النبوة الطاهر، حيث قال الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن والعجز والكسل والجُبن والبخل وضلع الدَّين وغلبة الرجال)، رواه البخاري عن أنس بن مالك.

 

ذلكم أن الهَمَّ نتيجة لبلوى حَلَّتْ، أو مصيبةٍ وقَعَتْ، أو كارثة نَزَلَت، سواءٌ كانت فرديةً أم عامة، ويقف الإنسان إزاء هذا الهَمّ، أحد موقفين؛ إما الاستسلام والانهزام، أو التوكُّل والاهتمام، فمن استسلم سيطر همُّهُ عليه، فاغتال إرادَتَه، وحطَّمَ قُدرَتَه، وشَلَّ إبداعَه، وأرداهُ صَرِعًا ينتظر حدفه، وأما المؤمن الحصِيف، فهو الذي يملك الإرادة المكينة والوعي والرشيد، والحزم الصلب، حيث يتصدى للهم بإيمان لا يتزعزع، ويقين لا يتزلزل، يُواكبُهُ تخطيطٌ دقيقٌ وعملٌ دؤوبٌ.

 

إن البلاء الواقع إما أن يكون (تكوينيًّا)، أو (سببيًّا)، ولا بد من مواجهته في (التكويني) بالصبر والاحتساب، ثم الانطلاق في ميادين الحياة بحثا عن الأسباب، وأما (السببي) : فمواجهته بالإقلاع عن المزالق التي أنتجت البلاء، ثم بالسيرورة في اهتمام ناجمٍ من خلال دراسة واعية، ونفس مُتَّئدةٍ وعقل راجح، وهمة عليَّة، وتخطيط حكيم، أليس المؤمن الفذ بقادر على تحويل همِّهِ إلى اهتمام ؟ ومصيبتِهِ إلى أمل ؟

 

أجل؛ لقد كان هذا درب أبي الأنبياء يعقوب عليه السلام، وذلك حين تعاقبت المحنة عليه بفقد ابنيه، (يوسف) أولا ثم أخيه (بنيامين) ثانيا، مما حدا به أن يأخذه الحزن ويُهَمين عليه الأسف، (وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84]، لكنه حول هذا الهم إلى اهتمام، يصارع القدَر بالقدَر، مُطالبا أولاده بالعمل الجاد والهمة الدؤوبة، للبحث عن أخويهما، (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) [يوسف: 87].

 

كذلكم كان منهج الابن يوسف عليه السلام، إثر مِحَنٍ تَوالَت عليه، راودَتْهُ امرأة العزيز ثم اتهمته، وإثر ذلك أعدَّتْ له مُنزلقًا خطيرًا في مَجمَعِ نِسوةٍ قطَّعنَ أيديَهُن، ثم دَفَعَت به إلى السجن، وهنا كمال المحنة، وتمام الهم، وإذا به يحول هذا الهم اهتمامًا بالآخَر، مُتجافيا عما يعتريه مِن هَم، فحين استفتاه فتيا السجن اللّذَيْن كانا معه اغتنم ذلك مناسبة واعية لدعوة راشدة: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)، [سورة يوسف]. وإِثْرَ هذا العرض المغري والبيان المتألق، أجابهما عن رؤياهما.

 

وموسى عليه السلام حين هَام على وجهه مُتَخَفيا، وجاء بلاد (مَديَنَ) هاربًا من بطش فرعون ، مُودعا أمَّه وذويه، وتاركا أهله ومحبيه، حَلَّ به المقام في بلدٍ لا يعرف فيه أحدًا، لكن هذا الهم ما كان ليحجِزَه عن الاهتمام، فما أن لمَحَت عينُه مشهدًا يقتضي النجدة إلا وتقدم مُتصديًا له، (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى? لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى? إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) [القصص].

 

وأما الحبيب المصطفى رحمة العالمين فحين حَلَّت به كارثةُ فقدِ ولده إبراهيم عليه السلام في العام العاشر من الهجرة، غسَّلَهُ، وكفَّنَهُ، ثم صَلَّى عليه، ثم وقف على قبره، [وعليٌّ والفضلُ] رضي الله عنهما يُواريان ابنَ عمهما، فلما أكملا عملهما ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة الوداع الأخيرة على قبر ابنه، فاسترعى انتباهَهُ ما دَعاهُ أن يتجاوز همَّهُ، وأن يُحوِّله إلى اهتمام، وعجبًا أن يكون هذا الاهتمام حِسِّيًّا جماليًا، حيث لاحظ فُرجَةً لم تُردَم، فأمر بها أن تُستَر، وقال: (أَمَا إنها لا تضُر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي، فإن العبد إذا عمل عملا أحب اللهُ أن يُتقنه) [رواه البيهقي].

 

فأحرِ بأمتنا اليوم وهي تواجه الأحداث الجسيمة والمحن العظيمة، أن تُحولها إلى اهتمامٍ راشدٍ، يُخرجُها من أزمتها ويُوصلها إلى طريق النصر والتمكين، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين