تأييد الأسد ووخزات الضمير

في تقييمه لنزعة الإلحاد التي أخذت بالانتشار مع سيل الأفكار المستوردة ونمط الحياة الغربية الوافدة، أشار الدكتور محمد عبد الله دراز لبعض الأسباب، ثم تحدث عن عامل خفي من عوامل الشك والجحود معاً، وهو بالرغم من خفائه غير أنه سبب قوي، ويتمثل في الراحة من وخز الضمير وسلطة الأخلاق، فربما أراد الإنسان أن يعيش حياته بلا قيد يرضي غرائزه كيفما شاء، ويشبع شهواته كلما أراد، لكن ذلك لا يتحقق ما دام ضميره يذكره بين الحين والآخر أنه يخطئ، حيث تمثل الأخلاق عبئاً ثقيلاً عليه فتحرمه متعته وتنغصها عليه، وحتى يتخلص من هذا العبء الأخلاقي يلجأ لتحطيم الجهاز المقدس الذي تستند عليه الأخلاق ويصغي له الضمير، فيعلن أنه ينكر وجود الله من أساسه، فحقيقة الإلحاد هنا لم تكن حباً للكفر أو اقتناعاً به وإنما إفساحاً للطريق نحو الغرائز بعيداً عن رقابة الضمير..

حينما قرأت هذا التحليل تذكرت مطلع العام 2011 أذكر يومها أن أغلب من عرفت تحمسًا للثورة وإنكارًا لجرائم النظام، كان بعض الشباب يتحدث بألم عن فظائع النظام أثناء اقتحامه لمدنهم وبلداتهم وقراهم، بل إن بعض الوجوه التي عرفت بتأييدها للنظام كانت تقول: نحن لا نفعل ذلك حباً فيه، وإنما تجنباً لبطشه، فهم يعيشون في ثنائية: من داخلهم يعرفون سوء النظام، ومن خارجهم يحسبون أنهم يدارونه أو قل ينافقون له، فإن سقط أعلنوا للناس أنهم إنما كانوا يمارسون تكتيك السنبلة حينما تنحني أما العاصفة، غير أن العاصفة طالت ويبدو أن السنبلة تقوست وتعديلها يعني كسرها، بدأت الشهور تنتهي وبدأنا نعد السنوات، وفي مدينة مثل دمشق لم تخرج ولو ليوم واحد عن سيطرة الأسد، ومع طول الأمد وتوحش النظام يوماً بعد يوم، ومع تزايد المآسي التي تسبَّب بها الأسد وحلفاؤه، صارت الحياة جحيماً في بعض المناطق الثائرة، ظل ضمير هؤلاء في لحظات الخلوة مع النفس يظهر خطأ خيارهم ولا أخلاقيته، وحتى يتخلصوا من ألم هذه الازدواجية قرر بعضهم اتباع طريقة النعامة التي تدفن رأسها في التراب كي تتهرب من الواقع، وبالتالي التخلص من ثنائية نظرتهم للنظام -على علاتها- وقرروا أنهم في صف النظام كموقف مبدئي، ليسدوا بذلك نافذة الضمير وألم وخزه، وليتمكنوا من العيش في حياة طبيعية دون أن يرف لهم جفن وهم يسمعون بمن قتلهم النظام جوعاً في مضايا ومخيم اليرموك..

إذن يضحك المرء على نفسه ليعيش حياته في بعض الأحيان، لكن لا بد من لحظة اصطدام مع الحقيقة، والحقيقة التي بدأت تتجلى لهؤلاء أن السنوات العجاف التي مرت والتي ظنوا أنه مع انقضائها سيعودون لحياتهم السابقة، مجرد وهم اشتروه وأمَّلوا فيه أنفسهم، فالضيق والضنك الذي عاشته أطراف دمشق مثل داريا والغوطة والمخيم بدأ يصير نمط الحياة الجديدة في دمشق، والكلام في حق دمشق ينطبق من باب أولى على بقية المدن والقرى، ولا عجب فهذا غاية ما يقدمه الأسد لهم بعد كل هذه السنين، فمن دفن ضميره بإرادته من قبل، هل تصحيه مطارق الواقع فوق رأسه؟! ربما، غير أن المؤكد خسارته للموقف الأخلاقي في الحالتين..

بقي التأكيد أن الكلام ليس على عموم أهلنا في الداخل، فهم ضحايا النظام بشكل أو بآخر، وإنما نتحدث عن فئة منافقة حاولت أن تضع قدماً هنا، وقدماً هناك، فلما لم يعد الجمع ممكناً، ارتدت عن طلب الحرية بتعبير الأستاذ محمد أحمد الراشد، هذه الردة التي كانت أسبابها دنيوية بحتة، بدت خياراً بائساً مع الوقت، فلا الدنيا بقيت ولا مواقف الرجال.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين