تأمين مستقبل الأولاد

من الأفكار المرهقة التي حمّلها المجتمع للأب قضية تأمين مستقبل الأبناء، وهذا التأمين يحمل في عرف أغلب الناس اليوم معنى واحداً لا ثاني له، وهو أن يَكِدَّ الأب ويتعب وينام على غاية الإرهاق بل قد يواصل الليل والنهار من أجل جمع المال الذي سيتركه بعده لأبنائه حتى (لا يحتاج الأبناء لأحد من الناس).

ناهيك أن فئة كبيرة من الآباء ما عادت تبالي أجمعت المال هذا من الحلال أو الحرام، كل ذلك من أجل أن لا ينظر المجتمع لرب البيت نظرة انتقاص ولكي يفتخر الأبناء بعد موت أبيهم قائلين: رحمه الله لقد ترك لنا مالاً كثيراً!

واعجبي لهذا الظلم وهذا القهر الذي يعيشه الآباء اليوم!

أقول لك أيها الفاضل راجياً أن تصبر على القراءة تكرماً:

لقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الرجل الذي أمسى كالّاً من عمل يده، لأن كدحه وجهده كان في سبيل تأمين احتياجات من استرعاه الله إياهم من زوجةٍ وأولاد، ولأنه صارع أهوال الحياة في معركة الخبز اليومية كي تبقى نفسه عزيزة ويده بيضاء كريمة.

 لكن إسلامنا العظيم الذي نصب ميزاناً دقيقاً لكل تفاصيل الحياة لم يكلف نفساً إلا ما آتاها، لقد أراد سعد بن وقاص عليه الرضوان _ يوم أحس بدنوِّ أجله _ أن يوصي بماله في سبيل الله واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكنه منعه وفاوضه حتى سمح له أن يوصي بثلث المال قائلاً له: (الثلث والثلث كثير)، ثم أردف عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس). فالأصل إن كان المال وفيراً والأمور في سعة ويُسر أن يحافظ الأب على قدر جيد منه يدخره لأبنائه من بعده..

لكن أي مصيبة تلك عندما تنشغل عن أبنائك (تربيةً وتديناً وتعليماً) بحجة أنك تؤمن لهم مستقبلهم البعيد الذي لا يعلم بأحداثه وما يكون فيه سوى الله سبحانه.

لست أقول أبداً أن يهمل المرء موضوع الرزق لكن في حدود المتاح مع تحري الحلال الصرف ودون إرهاق القلب والفكر إلى حدٍّ لا تحتمله الجبال كما يحدث للكثيرين من إخوتنا وأحبابنا..

إن المستقبل الحقيقي الذي طلب الله منا أن نسعى في تأمينه لأبنائنا هو أن نُخرج للحياة رجالاً يتمتعون بالديانة والأدب والرجولة، متحملين للمسؤولية مستقبلين أعباء الحياة بثقة ربانية عالية، ولأننا بشر يعترينا النقص ولابد أن تجتاحنا بين الفينة والأخرى موجات تفكيرٍ عاتية تعصف بنا خوفاً على أبناءنا وقلقاً من زمانٍ عصيب يكتنف أيامهم وأحلامهم، فلا أجمل والله من أن نعالج ذلك بنداءات السماء الندية فهي السبيل الأمثل لتسكين الخوف وبث الأمن في النفوس، واقرأ إن شئت قوله تعالى في سورة النساء:

{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}

ثم عرج على سورة الكهف لترى العجب في قوله سبحانه:

{وكان أبوهما صالحاً}، وإياك أن تشيح بوجهك عن أمثلة حية في واقعك لمن قصر في حق أبناءه تربية وتعرفاً على الله سبحانه وقد أغرقهم بالأموال، كيف صار حالهم بعد رحيله؟!  وإن من شواهد التاريخ المؤثرة ما كان من شأن أبناء عمر بن عبد العزيز وأبناء هشام بن عبد الملك فقد ترك كل واحد منهم أبناءً كثر. أما هشام بن عبد الملك فقد ترك لكل واحد منهم ألف ألف (مليون) دينار، ولم يترك عمر بن عبد العزيز لأبنائه

شيئاً، ﻗد ﺳﺄله ﻟﻨﺎ ﻫو ﻋﻠﻰ ﻓرﺍﺵ ﻟﻤو: ﻣﺎﺫﺍ ﺗرﻛﺖ ﻷﺑﻨﺎﺋك ﻳﺎ ﻋﻤﺮ ؟ ﻗﺎ: ﺗﺮﻛﺖ ﻟﻬﻢ ﺗﻘﻮ ﻟﻠﻪ، ﻓﺈ ﻛﺎﻧﻮ ﺻﺎﻟﺤﻴﻦ ﻓﺎﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﺘﻮﻟﻰ ﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﻮ ﻏﻴﺮ ﻟﻚ ﻓﻠﻦ ﺗﺮ ﻟﻬﻢ ﻣﺎﻳﻌﻴﻨﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺼﻴﺔ ﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ. يقول مقاتل بن سليمان:

ﻟﻘﺪ ﺭﺃﻳﺖ ﻓﻲ ﻳﻮٍ ﻭﺍﺣﺪٍ ﺣﺪَ ﺑﻨﺎ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ ﻟﻌﺰﻳﺰ ﻳﺘﺼﺪ ﺑﻤﺎﺋﺔ ﻓﺮس ﻟﻠﺠﻬﺎ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﻠﻪ، ﻭﺃﺣﺪ ﺑﻨﺎ ﻫﺸﺎ ﻳﺘﺴﻮ ﻓﻲ ﻷﺳﻮﺍﻕ.  

 

وإلى الأبناء التائهين: أفيقوا من هذه السكرة وكونوا عوناً لآبائكم ولا تنسوهم من الدعاء إن هم رحلوا إلى الآخرة وتذكروا أنهم ما بخلوا يوماً في سبيل سعادتكم وإن لم يتركوا لكم ديناراً ولا درهماً، لكنهم تركوا لكم سمعة مباركة لا تعدلها كنوز الدنيا..

  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين