تأملات لغوية وشرعية في حديث الرحمة المسلسل بالأولية

بين يدي الحديث

يعد الدرس الأول ذا أهمية كبيرة في تشكيل عقل الطالب، ويلعب اللقاء الأول دورًا مهمًا في تكوينه فيما بعد، إذ إن طالب العلم مهما أخذ في رحلته في طلب العلم، فإن اللقاء الأول يبقى محفورًا في ذاكرته مؤثرًا في أعماق ذاته مساهمًا مساهمة فعالة في تكوين شخصيته. وهذا أمر اتفقت عليه كل نظريات طرائق التدريس، لذا فقد أكد علماء طرائق التدريس على وجوبِ استعداد المدرس للقاء الأول بالطلبة، فيجب أن تكون الكلمات الأولى دسمة في محتواها شيقة في طريقة عرضها. ولا بد من الاستعداد حتى على مستوى مظهر الأستاذ الخارجي، وهذا الاستعداد والاهتمام بالدرس الأول يكون على اختلاف المراحل الدراسية من التدريس في رياض الأطفال إلى التدريس في مراحل الدكتوراه، لما يشكله من أهمية في تكوين النظرة الأولى للطالب عن الأستاذ والمادة مما يكون له بالغ الأثر في فهمها واستيعابها وتمثلها عقليًا وروحيًا وسلوكيًا.

الحديث المسلسل بالأولية أو (المسلسل بالرحمة)

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(الراحمونَ يرحمُهمُ الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمْـُكم من في السماء) (1)

مفهوم الحديث المسلسل

الحديث المسلسل هو الحديث الذي نُقِلَ إلينا بطريقة خاصة. وقد عرفه علماء الحديث بأنه: ما تتابع رواته واحدًا بعد واحد على صفة أو حالة واحدة(2).

والأحاديث المسلسلة قليلة بالنسبة لبقية الأحاديث، وقد جمع بعض العلماء الأحاديث المسلسلة في مصنفات خاصة، منها كتاب للسخاوي (ت 902 هـ) فيه مائة حديث مسلسل، ولعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ) كتاب اسمه (جياد المسلسلات)، وفيه 25 حديثًا مسلسلاً؛ وجمعها العلامة المحدث محمد عبد الباقي الأيوبي (ت 1364 هـ) في كتاب سماه (المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة)، فبلغت الأحاديث فيه 212 حديثًا مسلسلاً، ومحمد ياسين الفاداني (ت 1410 هـ) جمع المسلسلات في كتاب سماه (العجالة في الأحاديث المسلسلة)، إلى غيرها من الكتب التي ألفت في المسلسلات.

والحديث المسلسل أقسامٌ: منه حَدِيث اتّفقت رِجَاله على وصف واحد، سَوَاء كَانَ الْوَصْف قوليًا مثل أما وَالله أنباني، ثمَّ يَقُول كل راوٍ مثل ذَلِك.

مِثَاله قَوْله صلى الله عليه وآله وسلم لِمعَاذ رضي الله عنه: إِنِّي أحبك، فَقل فِي دبر كل صَلَاة: (اللَّهُمَّ أعني على ذكرك وشكرك وَحُسْن عبادتِكَ)، فَإِنَّهُ مسلسل بقول كل من رُوَاته: إِنِّي أحبك. فلم يعلمه الذكر فقط، بل ذكر له حبه قبل تعليمه الذكر.

أَو فعليًا كَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: (شَبكَ بيَدي أَبُو الْقَاسِم صلى الله عليه وآله وسلم خلق الله الأَرْض يَوْم السبت...). فَإِنَّهُ مسلسل بتشبيك كل راوٍ مِنْ رواته بيد من رَوَاهُ عَنهُ.

كَذَاك من الْفعْلِيّ إذا قَالَ: قد حَدَّثَنِيهِ قَائِمًا، ثمَّ يفعل الراوي الآخر مثل ذَلِك، أَو قَالَ: بعد أَن حَدثنِي تبسمَ؛ فَإِن كلاً من الْقيام والتبسم وصف فعلي، وَقد يجْتَمع الْوَصْف القولي والفعلي مَعًا كَحَدِيث أنس رضي الله عنه مَرْفُوعًا: (لَا يجد العَبْد حلاوة الايمان حَتَّى يُؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره حلوه ومره) قَالَ: وَقبض رَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم على لحيته، وَقَالَ: آمَنت بِالْقدرِ.

وقد دأب العلماء على تقليد لطيف وهو أن يكون هذا الحديث (الحديث المسلسل بالأولية) أول حديث يتلقاه الطالب من شيخه في رحلته لطلب علم الحديث(3)، وهذا معنى المسلسل بالأولية، أي: إن الطالب يتلقاه أول حديث، فيتفتق سمعه على هذه الكلمات. 

وقد بدأ هذا العرف عند العلماء من الإمام سفيان بن عُيَيْنة (ت 198 هـ) الذي تنتهي عنده سلسلة الأولية، بمعنى أن سفيان بن عيينة هو الذي بدأ بتعليم هذا الحديث أول حديث في المجلس الأول للحديث، إذ سمع عبد الرحمن بن بشر (ت 260 هـ) هذا الحديث من سفيان بن عيينة، وقال: وهو أول حديث سمعته من سفيان. وأخذ عبد الرحمن يعلمه لتلاميذه أول ما يعلمهم. وقد تلقى سفيان هذا الحديث من شيخه عمرو بن دينار (ت 125 هـ)، ولم يكن أول حديث تلقاه منه، أي: (إن سلسلة هذا الحديث تنتهي إلى سفيان بن عيينة فقط دون من فوقه، ومن رواه مسلسلاً إلى منتهاه فقد وَهِمَ)(4). وهذا من باب لطائف الإسناد. (فإنه إنما يصح التسلسل فيه بالأولية من أول السند إلى سفيان بن عيينة، وينقطع هذا التسلسل بين سفيان ومن فوقه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم )(5).

وقد وصلت إلينا هذه السلسلة المباركة بالأولية، ونحن إن شاء الله تعالى سنوصلها إلى أن يشاء الله تعالى.

وجدير بالذكر أنه لا دخل لهذه الأولية بالعمل بحديث الرحمة، إذ إن هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجب العمل به إن كان أول حديث تلقيناه عن شيوخنا أو آخر حديث. وهذه الأولية بالنسبة للعمل من فرعيات تلقي الحديث لا من أساسياتها، فالأولية (من مُلَح العلم لا من صلبه)(6).

أولاً: الأهمية الاعتقادية 

للبدء بهذا الحديث أهمية كبيرة في البناء الاعتقادي، إذ يتم من خلاله الربط بين الإيمان والعمل الصالح، وتتجلى الأهمية الاعتقادية للحديث في مظاهر أهمها:

الإيمان بالرحمن تعالى 

الإيمان بصفة من صفات الله تعالى، وهي صفة الرحمن، ومن مقتضيات الإيمان بهذه الصفة أن نتمثل الحصة البشرية من هذه الصفة؛ فمن الواجب على من يعرف صفات الخالق تعالى (السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبه يصير العبد ربانيًا، أي: قريبًا من الرب تعالى )(7)، فمن ثمرات الإيمان باسم الله الرحمن أن نتخلق بالقدر البشري من هذه الصفة، وهي صفة الرحمة، فنرحم مخلوقات الله تعالى. وليس بخافٍ أن صفة الخالق ليست كصفة المخلوق، وإذا كان بينهما تشابه ففي الاسم فقط. 

وذكر الإمام الغزالي أن حظ العبد المؤمن من صفة الرحمن أن يرحم عباد الله تعالى العاصين، فيصرفهم عن جحيم الغفلة إلى جنات الطاعات بالرفق واللطف دون تعنيف، ولا يدخر جهدًا في النصح والإرشاد لئلا يتعرضوا لسخط الله تعالى(8).

تسيير الحديث على منهج القرآن

البدء بهذا الحديث يعد تسييرًا للسنة المطهرة على منهج القرآن الكريم، إذ إن الله تعالى بدأ كتابه القرآن الكريم بالرحمة في قوله تعالى: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ} [الفاتحة: 1]، فاختار اسمين من أسمائه يدلان على الرحمة. وكذلك السنة تبدأ بهذا الحديث المليء بالرحمة سيرًا على سنة القرآن الكريم في البدء بالرحمة في التعليم. وهذا ما يزيد من ثقة المسلم بوحدة المنهج الذي يعبر عنه الكتاب والسنة، وهما دعامتا هذا الدين، ولا تناقض بينهما، بل هو الانسجام التام، الأمر الذي يوحي به انسجام أول حديث ندرسه مع أول آية نقرأها في ذكرهما للرحمة؛ فإذا اتفق الوحيان على الرحمة أيشذ عنهما من تربى على منهجهما؟ 

الرحمة المهداة

ينسجم البدء بهذا الحديث مع ذكر علة رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسلْناكَ إلا رَحْمَةً للعالَميْنَ} [الأنبياء: 107]، فهو الرحمة المهداة إلى البشرية، وعلة بعثته الرحمة، أفيجوز أن يبدأ منهجه بالغلظة؟ لا، بل لا بد أن يبدأ بالرحمة، لأن بعثته رحمة ومنهجه رحمة، بل هو الرحمة بعينها. وهذه فائدة عقدية تجعلنا نعرف أهم صفة من صفات هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الرحمة من أول حديث نقرأه ونسمعه.

الرجاء في رحمة الله تعالى 

يعد البدء بهذا الحديث استمطارًا لرحمة الله تعالى، أي: هو رجاء منا أن يعاملنا الله تعالى برحمته لا بعدله، فإنه لا أحد منا يدخل الجنة إلا برحمته لا يدخلها أحد بعمله، فإذا استحضرنا اسمه الرحمن في أول ما ندرسه فإننا نرجو أن يعاملنا الله تعالى به. وهذا ما يقوي الرجاء في رحمة الله تعالى الذي يعد الجناح الثاني للعبد بعد الخوف من الله تعالى.

ثانيًا: الأهمية اللغوية 

للبدء بهذا الحديث أهمية لغوية كبيرة في الابتعاد عن التطرف اللفظي، فقد تضمن الحديث جوانب جمالية دقيقة من الناحية الصوتية والصرفية والنحوية والبلاغية تزيد من رقة الخطاب، وتبعده عن الخطاب المتشنج المتطرف.

الناحية الصوتية

أصوات الحديث من أجمل الأصوات من ناحية التناغم الصوتي، إذ شاعت فيه أربعة أصوات أكثر من غيرها بشكل لافت، وهي الميم والراء والحاء والنون، فصوت الميم تكرر 10 مرات، وبعده في الشيوع صوت الراء الذي تكرر 8 مرات، وبعده الحاء الذي تكرر 5 مرات، ثم صوت النون الذي تكرر 4 مرات، وهذه الأصوات الأربعة من أجمل أصوات العربية لتضمنهما صفة الغنة بالنسبة للميم والنون والتكرير للراء والهمس في الحاء. ولما كان هذا الحديث أول ما يعطر سمع طالب العلم فإنه يعد تربية ذوقية للذائقة النغمية لطالب العلم بحيث ينشأ على سماع الكلام الرقيق الرفيق، الأمر الذي يجعله ينفر من سماع الكلمات الخبيثة التي تخدش الأسماع بأصواتها الناشزة التي لا تنسجم مع التربية الذوقية التي تلقاها من الحديث، وبالنتيجة فإن من تربى على سماع الكلمات الجميلة لا يستطيع التلفظ بالكلمات الخبيثة لأنها ستخدش لسانه، وهذا من اللين في القول الذي أُمر فيه نبي الله موسى عليه السلام في مخاطبة أطغى الطغاة فرعون، إذ أمره أن يقول له قولاً لينًا، وبذلك يكون طالب العلم أبعد ما يكون عن العنف اللفظي والاعتداء على الآخرين باللسان، فهو قضاء على أشد ما يمكن أن يفضي للعنف وهو الإرهاب اللفظي. 

الصرف 

استعمل الحديث مجموعة متنوعة من الصيغ الصرفية فاستعمل مجموعة من الأسماء: اسم الفاعل (الراحمون) وصفة مشبهة (الرحمن) واسمين من غير المشتقات (الأرض، السماء) أو أن السماء مصدر الفعل (سما - يسمو)، واستعمل في الحديث فعلين أحدهما مضارع تكرر مرتين (يرحم)، والثاني أمر ورد مرة واحدة (ارحم). 

هذه البنى الصرفية المختلفة شكلت بمجموعها المادة الأولية لبناء النص وقد جمع بين هذه البنى كونها بصورة عامة مبنية على جذر الرحمة الذي ينتظم أكثرها.

كلمة (الراحمون) وهي جمع لاسم الفاعل (الراحم) استعملها الحديث مع العبد، ولم يستعمل الرحمن أو الرحيم، فكأنه تلميح إلى أنه لعل رحمة منا واحدة تجعلنا نصيب رحمة الله تعالى، ولذلك عبر باسم الفاعل لا بالصفة. والشواهد على ذلك كثيرة، ولو عبر بصيغة المبالغة لترتبت رحمة الله تعالى لمن كانت له الرحمة سجية أو كان مكثرًا منها، ولم تشمل من يرحم مرة أو مرتين، فأتى باسم الفاعل ليزيل هذا الإيهام فله الحمد والمنة. فقد تكون رحمة واحدة كافية لأن نصير من المرحومين، فهو من التخفيف على هذه الأمة المرحومة.

واستعمل الفعل المضارع لبيان استمرار رحمة الله تعالى في الحال والاستقبال. وجاء فعل الأمر ملاءمة مع التوجيه الرباني، فالبنى شكلت حركة في النص وفاعلية تجلت في إشاعة الرحمة بين العبد والمخلوقات من جهة، وبين الرحمن تعالى وعباده الراحمين من جهة ثانية.

النحو 

تعددت الأساليب النحوية التي جاءت عليها تراكيب النص وجمله على قصر النص، فبدأ بأسلوب الخبر وبعده الأمر وبعده الشرط والجزاء، على قلة كلمات الحديث فقد حوى تنوعًا في الأساليب النحوية يبدد الملل الذي يوحي به التعبير بأسلوب نحوي واحد، وهذا أمر لاحظته كثير التكرار في الحديث النبوي الشريف.

فلما أراد تقرير حقيقة ثابتة هي رحمة الله تعالى للراحمين لمخلوقاته استعمل أسلوب الخبر: الراحمونَ يرحمُهمُ الرحمن. واستعمل الجملة الاسمية لأنها أكثر ثباتًا وقوة، وكلمة "الراحمون" جعلها مبتدأً في هذه الجملة تركيزًا عليها وجعلاً لها محط الاهتمام، إذ هي المسند إليه المتكلَّم عنه، وبذلك أخذت مكان صدارة الجملة وعمدتها، لكونها هي الكلمة المركزية في الحديث، والوصول إليها هو الهدف الأساس من توجيه الحديث النبوي الشريف.

وجاء الخبر جملة فعلية فعلها مضارع لتفيد أن الرحمن سيرحمهم رحمة مستمرة في الحاضر والمستقبل لا تنقطع رحمته عنهم.

ولما جاء إلى التوجيه والنصح استعمل أسلوب الأمر والصيغة التي استعملها هي صيغة فعل الأمر:"ارحموا"، وهي الصيغة الرئيسية في أسلوب الأمر، فانتقل بذلك من الخبر إلى الإنشاء الطلبي.

وبذلك انتقل إلى استعمال أسلوب الشرط والجزاء، وهذا الأسلوب يدل على التلازم بين الشرط والجزاء، وذلك إمعان في الربط بين العمل وثوابه. فالتركيب اللغوي يبعث على الطمأنينة في حصول رحمة الله تعالى للراحم. 

تكون النص الحديثي الشريف من جملتين مركزيتين الأولى هي الجملة الاسمية: "الراحمون يرحمهم الرحمن". والجملة الثانية الجملة الشرطية: "ارحموا من في الأرض يرحمْـُكم من في السماء"

الجملة الأولى جملة اسمية والخبر فيها جملة فعلية فعلها مضارع فهي مربوطة بالمبتدأ بأوثق عرى الترابط بين المبتدأ والخبر، فهي مربوطة بالضمير (هم). 

أما الجملة الثانية الشرطية فإنها تتكون من جملتين الأولى جملة الشرط (ارحموا من في الأرض)، والثانية جملة جواب الشرط (يرحمكم من في السماء) ولا يخفى على أحد أن الجملتين مترابطتان ترابطًا وثيقًا لكون الأولى شرطًا في حصول الثانية. 

والجملتان المركزيتان تربط بينهما آصرة دلالية هي أن الجملتين كلتيهما تعبران عن معنى واحد هو: أن الله تعالى يرحم من يرحم عباده. وكل جملة عبرت عن المعنى بطريقة مختلفة، فكلا الجملتين يعبر عن المعنى المركزي نفسه، فالجملة الأولى تقوم مقام قانون عام، والجملة الثانية كيفية تطبيق هذا القانون العام.

وهذا التشابه الدلالي يعد رابطًا محكمًا بين الجملتين، مما يمنح النص مظاهر مختلفة من روابط السبك والحبك. فالتركيبان جعلا كلمات الحديث متماسكة تمام التماسك بحيث يبدو كأنه جملة واحدة بل كأنه كلمة واحدة من شدة ترابط أجزائه. 

القراءات الحديثية 

الحديث قرئ قراءتين: قرئ بسكون الميم الأولى (يَرْحَمْكُمْ)، وقرئ بضمها (يَرْحَمُكُمْ)

فهو في حالة السكون يكون مجزومًا على أنه جواب الطلب، ويبدو لبعض المعربين أن يعربه جوابًا لشرط محذوف، وتقديره: ارحموا، إن ترحموا يرحمكم. وليست بنا حاجة إلى التقدير إذا أمكن حمل الإعراب على الظاهر.

أما على قراءة الضم فالفعل في حالة الرفع، فهو على الاستئناف(9)، وبذلك تكون الجملة مفيدة للدعاء، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لمن يأمرهم بأن يرحموا من في الأرض.

والمعنيان بينهما فرق دقيق لا يبدو إلا لمن يغوص خلفه في التفريق بين التراكيب النحوية المختلفة، ويتعمق في معرفة دلالات كل تركيب؛ فعلى قراءة الجزم لا يكون هناك دعاء بل هو من باب الإخبار بالشرط وجوابه، فمن يَرْحَمْ يُرْحَمْ، أما التركيب الثاني بالرفع فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر ويدعو، ومقتضاه أنه يأمرنا ويدعو لنا سواء أ نفذنا الأمر أم لم ننفذ. وبعبارة أخرى أن تركيب الجزم الرحمة فيه للراحمين فقط أما في تركيب الرفع فالدعاء بالرحمة للجميع. 

البلاغة

تضمن الحديث مجموعة من المظاهر البلاغية أهمها:

الطباق 

بذكر الشيء وضده في عبارة واحدة، وقد وقع الطباق في الحديث بين السماء والأرض. 

جناس الاشتقاق 

تضمن الحديث اشتقاقات مختلفة بين اسم وفعل، وبين فعل وفعل، وبين اسم واسم لمادة (رحم). وهي متأرجحة بين رحمة الله تعالى ورحمة العبد، وهما أمران مختلفان.

الكناية

الكناية عن الموصوف (من في السماء) وفيها تكنية عن الله تعالى(10)، ونظيرها قول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] 

فضلاً عن ذلك فقد حوى الحديث مجموعة من الأساليب اللغوية منها الخبر بالجملة الاسمية، والإنشاء بالجملة الفعلية الأمرية. والجملة الاسمية التي تفيد الثبات، والجملة الفعلية التي تفيد التجدد والحدوث، وجملة الشرط وجوابه. وكل ذلك من التنوع العبقري في استعمال إمكانيات اللغة التعبيرية مما يتيح للطالب حين يسمعها خيارات تعبيرية مختلفة، تمكنه من التعبير بالطرائق المختلفة للتعبير عن ما في داخله، ويستطيع من خلالها اختيار القوالب اللفظية المنسجمة مع الهدف الذي يريده من دون أن يخدش أذن السامع بعبارة مزعجة، وكل ذلك يقوي الرحمة في قلبه ليرحم الناس من الألفاظ البذيئة والتراكيب النابية التي قد يكون تأثيرها أقوى من تأثير السيف.

حديث الرحمة في الشعر

الحديث المسلسل بالرحمة احتوى معاني إنسانية عظيمة، وهذه المعاني العظيمة مثلت مادة أولية للشعر الذي تمثل هذه المعاني زاده الحقيقي، لكون الشعر تجربة إنسانية في الأساس وتقوم ركائزه الأساسية على المعاني الإنسانية.

والرحمة من أسمى المعاني الإنسانية لذلك تأثر الشعراء بهذا المعنى فاقتبسوه وضمنوه أشعارهم، فكثيرًا ما وقع منهم تناص مع هذا الحديث، أو ما كان يسميه علماؤنا السابقون الاقتباس والتضمين، وهم بين مفرق بين المصطلحين وبين من يرى أنهما مترادفان؛ وقام بعضهم بنظم معنى هذا الحديث.

والفرق بين التناص مع الحديث ونظم الحديث فرق دقيق لا يكاد يتلمسه إلا حاذق في العلم والأدب معًا. فالتناص مع الحديث هو أن يكتب الشاعر أو الناثر نصًّا في موضوع معين، ويكون معنى الحديث من ضمن أدواته للتعبير عن ذلك المعنى؛ أما نظم الحديث فهو تحويل معنى البيت إلى نظم على وزن الشعر وقافيته، وليس بخافٍ أن التناص يشمل الشعر والنثر معًا وما إليها من الأنواع الأدبية، في حين أن نظم الحديث من خصوصيات الشعر. ويعد التناص في الشعر الوجداني، أما نظم الحديث فهو من الشعر التعليمي؛ وينبني على هذا التفريق أنهما تتفاوت فيهما الجوانب الجمالية والإبداعية.

وقد ورد التناص مع الحديث المسلسل بالأولية في أشعار كثيرة منها قول أبي نواس: 

إني عَشِقتُ وهل في العشقِ من باسِ=ما مرّ مثْلُ الهوى شيءٌ على راسي

مالي وللنّـاسِ كـمْ يَلْحَـوْنَـني سَـفَهاً=دِيـني لنـفْـسي وديـنُ النـاسِ للنـاس

ما لـلْعُـداةِ إذا ما زُرْتُ مـالِـكَـتي=كـــــــأنّ أوْجُـهَـهُمْ تُـطْـلى بأنْـقـاسِ

الله يعْلَمُ ما تَرْكي زيـــــــــارَتكمْ=إلاّ مخافةَ أعــــــــــــدائي وحُرّاسي

و لو قدرْتُ على الإتْيــانِ جئتُكُمْ=سعْياً على الوجهِ أو مشْياً على الراسِ

وقد قرأتُ كتاباً من صحــائفكمْ=لا يرحمُ الله إلاّ راحــمَ النّــــــــــاسِ(11)

فالشطر الثاني من البيت الأخير فيه تناص مع الحديث المسلسل بالأولية، وتكرر فيه جذر الرحمة مرتين.

أما بالنسبة لنظم الحديث فقد ذكر العلماء أن بعض النظام نظموا أحاديث كثيرة، ومنهم من نظم كتابًا من كتب الحديث، فمثلاً كتاب: بلوغ المرام من أدلة الأحكام نظمه الإمام الصنعاني، الأمير عبد الله بن محمد (ت 1242 هـ) رحمه الله تعالى(12).

وأما بالنسبة لحديثنا الذي نحن بصدد دراسته المسلسل بالأولية فقد نظمه كثير من النظام في القديم والحديث، ولسنا هنا بصدد إحصاء كل من نظم هذا الحديث، ولكننا سنمثل لذلك بمثالين، ففي القديم ذكر ابن طولون عن المحدث جار الله بن فهد أن أباه نظم الحديث المسلسل بالأولية في بيتين ذكر أنه لم ينظم غيرهما، وهما:

الرّاحِمونَ لِمَنْ في الأرْضِ يَرْحَمُهُمْ=مَنْ في السَّماءِ كَذا عَنْ سَيِّدِ الرُّسُلِ

فَارْحَـمْ بِقَـلْبِـكَ خَـلْقَ اللهِ وَارْعَــهُـمُ=بِهِ تَنالُ الرِّضى وَالْعَفْوَ عَنْ زَلَلِ(13) 

فالشاعر في هذين البيتين نظم معنى الحديث النبوي، وذكر أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 

وفي العصر الحديث نظم معنى الحديث الشاعر العلامة عبد الحكيم الأنيس سنة (1405 هـ - 1985 م) اقتداء بالأئمة الأعلام، فقال:

قَدْ جاءَنا خَيْرُ الْكَلِمْ=نَثْرًا وَشِعْرًا قَدْ عُلِمْ

اِرْحَـمْ لِتُـرْحَمَ إِنَّـما=الرَّحْمَـنُ يَرْحَمُ مَنْ رَحِمْ

وللحافظ القيراطي بيتان تناص فيهما مع اسم الحديث المسلسل بالأولية، وهما قوله:

لِيْ فِيْـكَ حُـــــبٌّ أَوَّلٌ=أَرْوِيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَلِيَّهْ

فَحَديثُ حُبِّيْ في هَوا=كَ مُسَلْـسَلٌ بِـــالْأوَّلِيَّهْ 

وقام الشاعر عبد الحكيم الأنيس بتشطير البيتين السابقين بقوله: 

(لِيْ فِيْـكَ حُـــــبٌّ أَوَّلٌ)=عَـرَفَتْ بِهِ كُــلُّ الْبَرِيَّهْ

أَدْرِيْهِ فِيْ قَــــــلْبِيْ كَما=(أَرْوِيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَلِيَّهْ)

(فَحَديثُ حُبِّيْ في هَوا)=كَ حَديـثُ إسْــلامٍ وَنِيَّهْ

لا حُبَّ عِنْدي ما عَــدا=(كَ مُسَلْـسَلٌ بِـــالْأوَّلِيَّهْ)

ووقف حسام الربيعي يبغي أن يجد له موضعًا بين هذين الجبلين، ليخلط علم العلماء بجهالة الشعراء، فتجرأ بعد إحجام، وقال:

(لِيْ فِيْـكَ حُـــــبٌّ أَوَّلٌ)=كَنُسَيْــمَةِ السَّحَرِ النَّدِيَّهْ

مُتَـواتِـرٌ سَنَـدي لـَكُــمْ=(أَرْوِيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَلِيَّهْ)

(فَحَديثُ حُبِّيْ في هَوا)=كَ شَقيقُ ميلادِ الْبَــرِيَّهْ 

مِـنْ آدَمٍ حُـبِّـي إلَـيْـــ=(ـكَ مُسَلْـسَلٌ بِــالْأوَّلِيَّهْ)

ثالثًا: الأهمية الفقهية

للبدء بالحديث المسلسل بالأولية أهمية فقهية تتجلى في مظاهر مختلفة، من أهمها:

وجوب الرحمة 

أوجب الحديث الرحمة على المسلمين بأن يرحموا مخلوقات الله تعالى، إذ ورد الأمر بالرحمة بصيغة فعل الأمر (ارحموا)، وذهب علماء الأصول إلى أن الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب ما لم يأتِ دليل يصرفه عن الوجوب إلى غيره. وهذا الفعل جاء بصيغة الأمر، ولم يأتِنا دليل يصرفه عن الوجوب، فدل ذلك على أن الرحمة واجبة على كل مسلم، فيجب على كل مسلم أن يرحم من في الأرض. 

وذكر كلمة (من) يعمم الرحمة لتشمل عموم العقلاء، وهي هنا تشمل غير العقلاء مع العقلاء من باب التغليب، قال المباركفوري: (أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق، فيرحم البر والفاجر، والناطق والبهم، والوحوش والطير)(14). 

الجزاء من جنس العمل

إن الله تعالى يجازي الناس على أعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، ومن ذلك الجزاء في هذا الحديث نزول رحمة الله تعالى على الراحمين؛ لأنهم رَحِموا فَرُحِموا، فهو من باب الجزاء من جنس العمل. فالجزاء يكون من جنس العمل الذي نعمله؛ لكنه لا يقارن بالعمل، فهو لا يساويه، بل يفوقه أضعافًا مضاعفة لا يعرفها غير الله تعالى، أقل الجزاء عشرة أضعاف الحسنة، إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى الذي يجازي، فربما كان جزاء عمل واحد جزاءً عظيمًا بحيث يدخل صاحبه الجنة بسبب هذا العمل الواحد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ) (15). فالجزاء من جنس العمل لكنه بحسب المجازي، فالله تعالى يرحم ولكن رحمته ليست كرحمة عباده.

رابعًا: الأهمية النفسية والأخلاقية

الحديث فيه إدخال للرحمة في القلب لتحل محل القسوة، فهو من باب إذا حضرت الملائكة هربت الشياطين. وتتجلى الآثار النفسية في الحديث على شكل مظاهر أهمها:

الصداقة مع الكون 

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّ اللهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)(16) ؛ فرحمة الله لما كانت سابقة - وهي أول ما كتبه القلم - جعل الحديث الممتلئ بالرحمة أول ما يتلقاه طالب العلم، فيكتبه بقلمه. فهو سير على منهج الله في البدء بكتابة الرحمة، وهو تناغم العبد مع أول مخلوقات الله تعالى القلم، إذ يكون بهذا التناغم صديقًا للكون مما يشعره بجو من الإيلاف والأمن يبعد عنه أشباح الغربة، ويشيع أحاسيس الانسجام والتفاهم مع أعاظم مخلوقات الله تعالى.

ذكر الجزاء يسهل العمل

التذكير بالجزاء الأخروي يسهل العمل على العامل، لأن استحضار الجزاء يخفف من وطأة الشدة الموجودة في تنفيذ الأمر. كما يهون على الفلاح عذاب الزرع والسقي والمداراة حين يتذكر يوم الحصاد وسعادته وكثرة نقوده.

إدخال الرحمة نزع للغلظة 

إن في تعلم حديث الرحمة إدخال للرحمة في القلب لتكون خلقًا للطالب، وتحل محل القسوة والشدة. وإذا تلقاه في أول شبابه فإن هذه الخصلة ستكبر معه حتى إذا شاب أضحت هذه الخصلة متأصلة فيه لا تفارقه.

الرحمة لعباد الله تعالى 

هذا الحديث يربي طالب العلم على الرحمة لعباد الله تعالى ببذل النصح لهم، وإرشادهم إلى الخير وتوصيل العلم لهم، إذ يعد العلم أكبر رحمة لهم من وطأة الجهل الذي يورث تعاسة الدنيا ونقمة الآخرة. 

اللهم اجعلنا من عبادك الرحماء.

الحواشي: 

1 رواه أحمد: 6 / 46 – 47 برقم (6494)، بلفظ (ارْحَموا أهل الأرضِ يرحمْكم أهل السماء) وذكر أحمد محمد شاكر في تحقيق المسند أن إسناده صحيح، وأبو داود: 7 / 298 برقم (4941)، وسكت عنه ولفظه (ارحَمُوا أهلَ الأرضِ)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح لغيره، والترمذي: 537 برقم (1924)، واللفظ له، وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح.

2 ينظر التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح: 276.

3 ينظر الموافقات: 113.

4 بذل المجهود: 13 / 343.

5 منهج النقد في علوم الحديث: 357.

6 ينظر الموافقات: 113.

7 المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى: 27.

8 ينظر المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى: 42.

9 ينظر عون المعبود: 13 / 285، وبذل المجهود: 13 / 343.

10 ينظر عون المعبود: 13 / 285.

11 ديوان أبي نواس بتحقيق غريغوري شولر: 4 / 74.

12 ينظر معجم المؤلفين: 6 / 110.

13 الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة: 1 / 240.

14 تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: 6 / 51. 

15 رواه البخاري: 411 برقم (3467) كتاب أحاديث الأنبياء صلوات الله عليهم.

16 رواه البخاري: 861 برقم (7422) كتاب التوحيد / باب وكان عرشه على الماء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين