تأملات في قصة ابني آدم (3)

 

(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ? قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَ?ذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ? فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [سورة المائدة : 31]

 

ياللجريمة ما أقبحها !… 

يا للنفس المظلومة من ينصرها وقد زهقت بغير حق!

 

من علمك يا بن آدم القتل والإجرام وأنت الذي فطرك ربك على الإسلام؟! ..

 

لاشك أنه داء الشيطنة الذي أخرج الشيطان من دائرة الرحمة الإلهية ألا وهو الحسد ..

 

فاضت روح المظلوم إلى بارئها .. وصعدت إلى السماء كي تستريح من عناء الدنيا ونصبها… 

وحسد الحاسدين فيها ..

ما أشد حرارة دم المظلوم ! 

ما أبشع الجريمة .. !

 

كلما قرأت نبأ ابني آدم تصورت أشلاء الطفولة في الشام الجريحة… 

في دوما المكلومة .. في حلب الشهباء ..

في حوران الإباء ..  ماذا صنع الطفل للمجرم ؟

 

السؤال ذاته يدور هنا .. ماذا فعل المظلوم حتى قتل؟!

 

سال الدم، وأزهقت الروح، وسن ابن آدم القاتل القتل، فحق عليه تبعات كل من فعل ذلك الجرم، كما أخبر نبينا بقوله: 

«لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ "

 

ولم يكن للأرض عهد بدم بشر، ولم يسبق أن رأى القاتل جثة ميت، فلا يعلم ما يصنع بجثة أخيه. 

 

لقد ظن أنه حين يقتل أخاه ستصفو له الحياة، وسيملك الدنيا بأسرها، ولن يشاركه فيها أحد بعد اليوم. 

 

أخي الإنسان في بلدي مجال  

لأن نحيا معًا ولديك حَق

فلاتحرق بنارك بَوْحَ وَردي فليس يفيد بعد الآن حرق

أخي الإنسان أنت أخي 

لماذا تعذبني أقلبك لا يَرِقُّ ؟

 

وهكذا هو تفكير العاحزين عن الإنجاز والتميز، يظنون أنهم  إن قتلوا المتميزين المنافسين لهم، فسيحققون التميز والظهور الذي يحلمون به ويعجزون عن نيله، ولمثلهم قال الشاعر: 

لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

 

كأني أبصر جثمان المظلوم ممددا .. والألم والحيرة تصدع رأس القاتل ..

ليته كان ندم تائب ..

ولكنه كان من باب أنه ليته لم يفعل كي لا يحمل عبء جثة أخيه، ولأنه لم ينتفع من قتله. 

 

وليس المراد هنا ندم التوبة ، فلو تاب لقبل الله توبته، فلطالما سبقت رحمته تعالى غضبه، بل جعل لنفسه اسم الغافر ليغفر لمن أذنب…  والغفور ليغفر لمن يكثر الذنب .. والغفار لمن عظم ذنبه .. 

ولكن لم يكن ندم توبة فصار كفل كل نفس تزهق ظلما في عنقه. 

 

بينما هو كذلك إذ تداركت رحمة الله ذلك الجسد الذي أزهقت روح صاحبه ظلما، فبعث الله غرابا يدفن غرابا ميتا، فتعلم ابن آدم كيف يواري جثة أخيه. 

 

ترى لم كان المعلم هو الغراب؟

 

ألا تبصر معي ظلام الجريمة وسواد قلب المجرم؟!

مثل هذا لا يناسبه معلم إلا بلون جرمه وقبحه ..

 

بل إن المعلم هنا من مخلوقات لا تفكر ولا تعقل، ولكنها اهتدت بالفطرة لما تعمل ..

 

بينما ابن آدم لم ينفعه عقله، ولم تسقه فطرته للنور ..  فكان من الجهل بمكان  ،فأوصله لجريمة القتل. 

 

وهكذا تعلم القاتل كيف يواري سوءة أخيه .. 

وجعل ينادي بحضور الويل عليه ..

فما عادت الدنيا التي أرادها لنفسه دون أخيه تسعه .. ومضى يطوف بها وهي تضيق بصدره على رحابتها ..

 

انتهت القصة .. 

وظهرت ثمرة الحسد الخبيثة .. وأزهقت النفس البريئة. 

 

وبقي علينا أن ننظر بعين المعتبر .. أن صراع البشر بين البشر أساسه الحسد، والرغبة في السيطرة على الدنيا ..

 

ويوم نعيش بخلق: (ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..) حينها نبصر أملا في بناء مدينة فاضلة يسودها العدل والحب والأمان. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين