تأملات في قصة ابني آدم (1)

 

  

 

صراع الإنسان مع أخيه الإنسان في ضوء القرآن

 

 

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ? قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة : 27]

 

يا لروعة بيان القرآن وجماله وعذوبة أسلوبه ..

 

إنه يسيطر بجماله على القلوب، ويأسرها في كل سوره وكلماته، ويحلق بها في عالم الحدث الذي يتكلم عنه، ليعيش المستمع والقارئ تلك الأحداث كما لو كانت تتحرك حية أمامه، وبتصوير فني راق، ما كانت البشرية لتصل لرقيه، فهذا كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. 

 

بداية الحديث عن قصة ابني آدم تمتد إلى حديث عن آدم ذاته، حينما جعله الله في الأرض خليفة، وأسجد له ملائكته، وسلط عليه عدوا له، ليكون محط اختبار واصطفاء، فكانت العداوة الممتدة إلى حين الوقت المعلوم بين الإنسان والشيطان. 

 

ونزل آدم إلى الأرض بعد أن تاب الله عليه بدأت رحلة المعاناة. 

 

لقد كان في عيش رغيد ودعة، يأكل ويشرب ويتمتع بلا تعب ولا نصب، ولكن لحكمة أرادها الله أن ينزل آدم للأرض، ومما يدل على ذلك: 

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى?) (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى?) [سورة طه18 : 119]

 

ولكنها المعصية التي تولد الشقاء:

 

(فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَ?ذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى?) [سورة طه : 117]

وفي موطن آخر قال: 

 

(قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى? وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا) [سورة طه : 125] (قَالَ كَذَ?لِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ? وَكَذَ?لِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى?) [سورة طه 125: 126]

 

ومع نزول آدم عليه السلام، بدأت ذريته، وصار يزوج أنثى كل بطن لذكر البطن الآخر. 

 

(  وذلك الخبر وفق رويات إسرائيلية ذكرت في التفاسير، ولكني لم أجد لها سندا عن نبيا محمد صلى الله عليه وسلم، وغالب قصص الإسرائيليات يدخل فيها عنصر التقاتل على المرأة).

 

والذي أميل له أن الأمر لا يتعلق بصراع على امرأة، ولكنه صراع لأجل القربى والتقوى. 

 

يأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يتلو على قومه ما حصل مع ابني آدم، وكأنه خبير بها، بل ويحدد له أي اخبارهما يتلوها على الناس. 

 

وتلاة النبي عليه الصلاة والسلام لمثل هذه القصة التي لا يمكن لأميِّ معرفتها، هو مزيد من تأيد الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الدالة على صدقه. 

 

كان المطلوب منه تلاوة مشهد واحد من حياتهما، تلك الحياة التي بقيت مجهولة في أعماق التاريخ. 

كان هذا المشهد عند تقديم كل منهما القربان لله تعالى، في تسابق وتنافس لأجل نيل رضاه جل في علاه. 

 

لقد جسدت هذه القصة منذ إشراقة كلماتها على صفحات الزمن، أن ميدان الحب لله والرغبة في نيل رضاه هو ميدان التمايز، ولا يكون ذلك إلا عند الدعوة للبذل لأجل الله. 

 

كم منا من تحين له الفرص ليقرب لله قربانا مما رزقه الله، فماهو قربانه؟! 

وما سنة الأضحية ببعيد، حيث يتمايز من يفعلها لله ومن يفعلها لأجل الناس. 

 

كلاهما قرب قربانا، ولا ندري ما قربان كل منهما؟

لكن ما ندركه أن قربان أحدهما كان من أفضل ما قدم، والآخر بخل وقدم الأردء. 

 

لم تكن العبرة بنوع القربان ومادته، هل هو كبش أقرن والآخر سنابل قمح رديئة، أم غير ذلك، لأنها في النتيجة هي أرزاق الله ونعمه، ولذلك لم يعلق على القربان وصنفه، فالغاية ليس ذلك، بل بيان أن القربان لله أمر تعبدي، والمهم أن يقبله الله تعالى، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث يوضح ذلك: 

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: «كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ فَتَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا» رواه النسائي. 

 

إذاً ليس العبرة بالكم، لأن دينار الأول نصف ثروته، ومائة ألف من الآخر من عرض مال وفير، لذلك الواحد سبق المائة ألف .. فالعبرة بأن يقدم، وليس فيما قُدِّم.

 

وفي قصة ابني آدم لم يذكر نوع القربان لأجل أن لا يُظن أن نوع القربان هو سبب عدم القبول. 

 

فلو كان القربان جبلا من ذهب ما كان ذلك ليمنحه صفة القبول، ولهذا ختم الآية ببيان معيار القبول كما سيأتي في السطور التالية. 

 

(قال:  لأقتلنك) لم يسمّ القائل، لكن بلا شك القائل هو من لم يتقبل منه. 

 

فحاشا لمن يقبل الله منه أن يكون قاتلا، أو تميل نفسه لغير ما يرضي الله. 

 

وهنا أتذكر قصة أسطورية ذكرها ابن القيم رحمه الله في أحد كتبه: 

 

عشقت نملة جملا، ودعته لبيتها، لكن البيت لا يتسع للجمل، فقال لها:  إما تتخذي بيتا يليق بمحبوبك، أو تتخذي محبوبا يليق ببيتك، ثم استطرد قائلا:

إما أن تصلي صلاة تليق بمعبودك، أو تتخذ معبودا يليق بصلاتك. 

 

وأقول؛ إما أن تتقرب بما يليق بمعبودك، أو تتخذ معبودا يليق بقربانك. 

 

حكاية ابني آدم حكاية من يتقبل قربانه… 

 

فكل الملل حتى المشركين يتقربون لله وفق ما ورثوه من طقوس عبادة، ولكن الله لن يتقبل من كل من قدم، بل فقط من المتقين. 

 

لقد بينت الآية ممن يقبل القربان؟

فالجواب من المتقين ..

 

ليكون ذلك ختاما للفصل الأول من هذه القصة المذهلة، التي سطرت هذه الآية أولى كلماتها. 

 

والتقوى ينتفي بوجدها الشرك، والشر، والفسادة في الأرض، قال تعلى: 

 

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى? مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) 

(وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ? وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [سورة البقرة204 : 205].

 

إن صراع البشر اليوم، لا يختلف كثيرا عن ذلك الصراع في بداية عهد الأرض بآدم وذريته، ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام: 

 

عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقِتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدمَ الأوّلِ كِفْلٌ من دمها، لأنه كان أوّلَ منْ سَنَّ القتل". رواه أحمد. 

 

فمن أدرك حقيقة الصراع بين ابني آدم أدرك كيف يحل معضلات الصراع البشري المرير في هذا الزمن الصعب، المليئ بالفتن، ما ظهر منها وما بطن، أعاذنا من مضلات الفتن. 

 

أسدلت الستارة على الفصل الأول في أولى قصص ذرية آدم عليه السلام، وهم ولداه .. 

 

الآيات التالية ستكشف لنا مزيدا عن حقيقة ذلك الصراع، وأسبابه، وإلى أي حد وصل تهديد الأخ لأخيه. 

 

ابقوا معنا… .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين