تأمّلات في عاصفة الثلج

كُسِيَتْ رُبوعُ الأرض خيرَ كِسَاء * * * يا رَبّ فَاكسُ قُلوبَنا بنَقاء

وامدُد لنا حَبلَ الرضا بعِنايةٍ * * * نسمُو بها للعزّ والعلياء

عاصفة ثلجيّة هائلة ، لم أر مثلها قطّ في إسطنبول ، وفي عنتاب حيث أقيم ، وعمّت تركيا كلّها بدرجات مختلفة .. وكانت بلاء وأيّ بلاء .! على أهلنا في مخيّمات التشرّد والنزوح ، التي لا تقي حرّاً ولا برداً ، رغم ما هم فيه من أنواع البلاء والمُعاناة ، أعانهم الله .. ولم يقتصر وجه البلاء في هذه العاصفة على أهلنا في المُخيمات فحَسب .. بل عمّت الناس في تركيا بدرجات متفاوتة .. فعشرات الألوف إن لم نقل مئات الألوف تضرّروا بسيّاراتهم ، أو متاجرهم ، أو بيوتهم وأموالهم .. والله عزّ وجلّ يبتلي عباده بحكمته بما شاء من السرّاء والضرّاء ، والمنع والعطاء ، وله الحِكَمُ البالغة ، التي لا تحيط بها عقول البشر ، ولا يسأل سبحانه عمّا يفعل .. هذا هو الوجه المَكروه في هذه العاصفة ..

وقد رأيت فيها وجهاً آخر أو وجوهاً .. عندما وقفت في هدأة الليل أمام نافذةِ غرفتي أرقب تساقط الثلج ، وهو يتساقط بغزارة شديدة ، يهدأ لحظات ، ثمّ يثور ، ويذهب في تساقطه يمنة ويسرة ، وتلعب به الرياح في جميع الاتّجاهات ، فيكسو الأرض ، وما عليها ثوباً أبيض خلال ساعة من الزمن .. فعرتني الخشية من الله تَعالى ، والشعور بعظمته وجلاله ، وإحاطته بخلقه : كيف بدّل سبحانه الأرض غير الأرض خلال سويعة ..؟!! وكيف الحال عِندَنا في هذه العاصفة ، وعند غيرنا يكتوي الناس بالحرارة الشديدة ، وكأنّهم في كوكب غير هذا الكوكب ..! وذكّرتني كسوة الأرض بهذا الثوب الأبيض الناصع الجميل : كيف تتنزّل رحمات الله تعالى على قلوب عباده التائبين المُنيبين ، فتغيّرها في لحظات وتطهّرها ، وتبدّلها من حال إلى حال ، وكأنّما خلقت خلقاً آخر : {... فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] .. واستَشعَرتُ في تلك اللحظات عَظيمَ فضل الله تعالى على عباده ، وعَظيمَ قدرة الله سبحانه وأقداره ، وتقليب أحوال عباده :

ما بين طرفة عين وانتباهتها * * * يبدّل الله من حال إلى حال ..

فلا يعجب بعد ذلك من أقدار ربّه ، أو يستبعد تبديل العسر باليسر ، والشدّة بالفرج إلاّ غافل القلب ، قاصر العقل ، قليل الفهم ..

ورأيت في الثلج مثلاً حيّاً في تلك اللحظات : ماذا تصنع التوبة النصوح بقلب المُؤمن المُنيب .!؟ وكيفَ تنقله من حَالٍ إلى حَالٍ .؟! وكيفَ يخرج الإنسان بالهداية في لحظة ، من ظلمات المَعصية والذنوب إلى نور الطاعة والهداية ..

واستَشعَرتُ في تلك اللحظات أيضاً مَثلاً عَظيماً ظاهراً لتنزّل نعمِ الله تعالى على عباده ، وتواتر آلائه ، وكيف تغمر حياتهم ووجودهم آناء الليل والنهار ، وهم عنها غافلون لاهون ..!! وكثير منهم يتمتّعون بها ، ويجحدون فضل الله عليهم ، وعظيم آلائه ..

واستَشعَرتُ كذلك في تلك اللحظات أنّ هذا الثلج النازل في هذه الساعات كيف تقف قوى الأرض كلّها عاجزة ، لا حول لها ولا قوّة ، فلا تستطيع أن تمسكه ، وتمنع نزوله .. وكذلك رحمة الله جلّ وعلا ، كما قال سبحانه : {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}[فاطر:2] . حقّاً ولا ريب ! {... وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] .

واستَشعَرتُ كذلك رحمة الله تعالى لعباده بشريعته ودينه ، التي لا تستطيع قوّة في الأرض أن تحجب نورها وهديها عن الخلق .. بل إنّها لأعظمُ من هذه العاصفة ، وأقوى رسوخاً من كلّ قوّة ، بما لا يقدّر ، وَلا يقاس : {... وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [التوبة:32] ..

واستَشعَرتُ كذلك رحمة الله تعالى العُظمى بعباده ، ببعثة النبيّ الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فهو غيث للوجود كلّه ، كما ضرب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك مثلاً ، كما في الحديث الصحيح : « إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ مَثَلُ غَيْثٍ أَصَابَ الأَرْضَ ، وَكَانَتْ مِنْهُ أَجَادِبُ ، أَمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ ، فَشَرِبُوا مِنْهَا ، وَزَرَعُوا ، وَسَقَوْا . وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهُمْ ، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ ، لا يُنْبِتُ ، وَلا يُمْسِكُ ، وَلا يُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ ، وَنَفَعَ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الذي أرسلت به » .

وبعد فإنّ بينَ الثلج ورحمة الله تعالى علاقة وثيقة ، يشير إليها دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في افتتاح صلاته ، كما جاء في الحديث الصحيح : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذَا كَبَّرَ سَكَتَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالقِرَاءَةِ ، قَالَ : فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالقِرَاءَةِ ، فَأَخْبِرْنِي مَا تَقُولُ ، قَالَ : أَقُولُ : « اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ ، كَما ينقّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ، اللَّهُمَّ اغسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ » .

كما يشير إليها دعاء النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عندما صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكانَ مِنْ دُعَائِهِ : « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، وَارْحَمْهُ ، وَعَافِهِ ، وَاعْفُ عَنْهُ ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ ، وَاغسِلْهُ بِالمَاءِ ، وَالثَّلْجِ ، وَالبَرَدِ ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا ، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ .. » . فما العلاقةُ بين رحمة الله تعالى للمَيت ، وبين غسله بِالمَاءِ ، وَالثَّلْجِ ، وَالبَرَدِ .؟ فلا شكّ في هذه العلاقة ، وهي من شئون الغيب ، التي نُؤمن بِها ، ونسَلّم ، وإن لم نُدركْ حقيقتَها ..

واستَشعَرتُ كذلك مِن خلال التأمّل بالثلج النازل ، وقد كسى الأرض بحُلّته البيضاءِ كيفَ أنّ مَبدأ الغَيث قطرة .. وأنّ هذه الكِسْوة البهيّة بدأتْ من قطعة ثلج صَغيرَةٍ ، استفتحت بها العاصفة .. وكذلك الطاعة والمَعصية .. تبدأ إحداهما فعلاً واحداً محدوداً ، ربّما لم يُؤبه له ، ولم يبالَ به .. وعندما يكثر ويتراكم ، ويستُمِرُّ ويتعاظم ، يصبح جزءاً من نسيج شخصيّة الإنسان وبنائها ، ومَعلماً من معالم المُجتمع وعلاقاته ، وتنتشر آثاره ، وتعمّ ثمراته ، طيّبة كانت أو خبيثة ..

علّمتني عاصفة الثلج الكثير .! وأعظم ما علّمتني أنّ اللَّهَ تعالى : {... بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المُلك:1] .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين