تأملات في سورة يوسف (8)

 

 

    حينما يجند الله من الباطل انصارا للحق

 

«قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ».

 

تتجلى قدرته تعالى في جعل نصرة الحق من بين صف فريق الباطل الذي بات يعتقد أن النصر بجمعه وقوته.

 

فبينما كاد الموتمر المنعقد للبحث في أفضل حكم يشف صدور المتآمرين على يوسف، يوشك أن يخرج باجماع يقر الجريمة، كانت إرادة الله هي الغالبة، حيث أوقف زحف تلك الجريمة لحيز التنفيذ واحدا منهم  ليكون في تحريك أحدهم نحو إبطال ذلك الإجماع.

 

إن المعترض ليس بعيدا عنهم ولا غريبا عن حلفهم، إنه منهم: (قال قائل منهم).

 

يا لعظيم قدرة الله، فقد كان سبحانه قادرا أن يجعل ليوسف أنصارا من طرفه، ولكن لتمام تصوير قدرة الله تعالى كان نصير يوسف فردا منهم، فمهما كان مكرهم فلله المكر جميعا.

 

إن الآية تقرر حقيقة عظيمة مفادها:

 

لا يزال الخير موجودا ما وجدت أنفس تكره الجريمة، وتواجه الباطل والطغيان، ولن يسلم للباطل مراده بموت كل معارض، أو محاولة صبغ كل البشرية بصبغته.

 

ربما يكون صاحب تلك النفس ضعيفا أمام قوة الباطل وسطوته، فهو واحد من بين جماعة، كلهم أجمعوا على الجريمة وهو يخالفهم بها، ومع هذا لم يمنعه قوة الباطل وضعفه من الاحتيال عليهم بمقترح يصرفهم عن الجريمة، ويجعل رأيه هو الراجح عندهم على كثرتهم وقوتهم.

 

ما أحوجنا لمثل فكر هذا المعارض الحكيم في زمن سطوة وطغيان الباطل، لقد علمنا أن منع الإجرام لا يكون بالقوة فحسب، فلربما لو استعمل معهم القوة لقتلوه قبل أي أحد.

 

ولكم ضرب القرآن أمثلة عن رجل غير بموقفه منهج أمة.

 

إن انتصار الحق والوقف بوجه الباطل لا يحتاج دوما لنظرية الكثرة والقوة.

 

ها هو يشير عليهم بأن لا يقتلوا يوسف، وبذات الوقت يتحقق لهم مرادهم أن يخلو لهم وجه أبيهم، وذلك بجعل يوسف في جب يسهل على مارة أخذه بعيدا، وبهذا صرفهم عن الجريمة.

 

( إن كنتم فاعلين) كلمات هزتي من الأعماق، وهي تنير أمام عيني عظمة القرآن وروعة بلاغته:

 

لقد جاءت (إن) الشرطية لتبين التشكيك في الاصرار على ايقاع الأذى بيوسف، فالنفس السليمة من شوائب الحقد والحسد لا تقبل هذا الفعل، ولا يعبر عن ذلك مثل الشرط باستعمال ( إن).

 

وتبين مدى الحكمة وحسن السياسة من الحق الضعيف في شخص القائل، فهو يعلم إصرارهم على قتل أو ابعاد يوسف، ولا يمكنه فرض رأيه، ولذلك طرح رأيه الصارف عن قتل يوسف، بطريقة يقول لهم فيها: هذا هو أقرب ما يشفي غليلكم من يوسف دون أن ترتكبوا الجريمة، وإن كنت أشكك في قبولكم لرأي مع كونه الأخف ضرارا.

 

بهذا التشكيك مهد لنفسوهم أن تقبله، وإن قبلوه فنفوسهم مطئنة أن القبول لم يكن بإملاءات خارجية تزعجهم، ولا بغلبة من هو أقوى منهم.

 

الحمد لله فقد نجا يوسف من القتل، وبدأ الجميع بالإعداد لتنفيذ ما هو أخف من القتل برأيهم، وأشرفت شمس الصباح وتجهزوا للاحتيال على أبيهم ليأخذوه من أحضانه.

 

المشهد التالي فيه أحداث مذهلة فابقوا معنا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين