تأملات في سورة يوسف -7-

 

التوبة المسبقة الصنع لا تقبل

 

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [سورة يوسف : 9]

 

مازال مؤتمرهم منعقداً، ومازال الشر يسيطر على تفكيرهم، وتكاد تستشعر من سياق البيان القرآني المعجز حرارة أنفاسهم الملوثة بسواد النية، وقد أعمى الحسد بصيرتهم، وقتل عاطفة الأخوة فيهم.

 

الكلام الآن حول قرار النطق بالحكم في محكمة الجاني فيها بريء، بل هو غائب عن جلساتها.

 

وأخيرا صدر الحكم باتفاق الغالبية، ولولا ضمير أحدهم المستيقظ لكان إجماعا.

 

اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا.

 

يا لعجب الوصف، ودقة البيان !!!

فقد جمع بين خيارين الموت فيهما مشترك.

 

إما قتل أو موت في ديار الغربة وألمها وصعابها.

 

كم هي مؤلمة حياة الغربة عن الوطن !

لقد اختاروها إحدى الأحكام القاسية التي قرروها بحق أخيهم ..

حقا لولا أنها تساوي القتل في القسوة لما جعلوها محط تخيير بينها وبين قتله..

 

إن البعد عن الوطن له مرارته التي لا يعرفها إلا من تجرعها، فشتان بين حضن وطن يضمك، وحضن وطن ليس لك. 

في الغربة لا أحد يقف بجانبك حال تعرضك للذل والاستعباد.

 

غُصْت في أعماق القصة، ورجعت عبر الزمن أفتش عن جرم ارتكبه يوسف ليستحق هذا الحكم الصادر من إخوة الدم، ترى إذا كان هذا هو حكم الإخوة فكيف حكم العدو إذاً ؟؟!!

 

لم أجد جرما له سوى يتمه الذي أحوجه لمزيد عطف من أبيه.

 

وصغر سن دفعت الأب الشيخ الهرم أن يلحظه بمزيد من العناية، فالنبتة الصغيرة تحتاج لرعاية أكبر لتصل لحال مثيلاتها من القوة.

 

وأقف مندهشا وأنا اتأمل كلمات آية تتحدث في طياتها عن نبض الحدث، وأنفاس شخصياته، بدقة عجيبة!! .

 

كلمات تصف غايتهم من اقتراف الجرم بحق أخيهم، إنه التنافس للفوز بمملكة قلب الأب وعرشه، وبوابة ذلك أن لا يبصر سواهم.

 

«يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» ..

 

هم لا يريدون الوجه عينه، بل يريدون قلبه، وبوابة القلوب وجه يقابل وجها، ونفس ترتاح لنفس.

 

غرر بهم الشيطان وزيّن لهم أن غياب يوسف سيجعل أباهم ينظر لهم، لأنه سيضطر للشعور بوجودهم في حال لم يجد يوسف.

 

آه من المكر وأهله !!!

كم منا من يعتقد أن وصوله لقلب رب العمل ومحبته مرهون بإبعاد أخيه الذي كان له حظوة أكثر من غيره عند رب العمل !!!

 

كان الأجدر بإخوة يوسف أن يخرجوا من صندوقهم المغلق ويفكروا خارجه قليلا : كيف نبدع لنلفت انتباه الآخرين لنا ؟؟!

أما إشغال العقل بالتفكير في كيفية التخلص من المنافس، فهذ تخلف، وتعطيل لأعظم نعمة منحها الله للإنسان وهي العقل.

 

  يعلمنا الله تعالى أن تحقيق الأهداف لا يتعلق بإزاحة المنافس من الطريق؛ لأن هذا التفكير سيقود للإجرام.

 

وهذه السياسة لا يستعملها إلا الحكام مع معارضيهم، ولطالما انتهت هذه الطريقة بثورة تجتث إجرامهم وتنتقم لكل معارض قتل، وما حال الشام ببعيد!.

 

«وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» ! ..

 

وهنا يكمن العجب من فعل إخوة يوسف: 

حيث يزين لهم الشيطان جريمتهم، ويسول للنفوس عند ما تغضب وتفقد زمامها، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث.

 

أي خبث لدى الشيطان حتى أوجد تلك الحجج التي قتلت النفس اللوامة من قبل شروعها في إيقاظ ضمائر لم تعد تفكر بغير الخطأ.

 

لقد غلا في صدورهم مرجل الحقد وتعزز في نفوسهم صواب خطأ سيتبعونه بتوبة تصلح بحسب زعمهم ما تم من جريمة!

 

ترى هل أصابوا حينما بيتوا جريمة وتوبة معا؟

 

الحقيقة أن من شروط التوبة:

 

الإقلاع عن الذنب…  العزم على عدم فعله…  ورد المظالم لأهلها… الندم على فعله.

 

وعليه فلم يكن التوفيق حليفهم هذه المرة، فليس هذا طريق التوبة ..

 

إن التوبة مسبقة الصنع  لجريمة ينوي المرء فعلها لا تسمى توبة. 

إنما هي تبرير لارتكاب جريمة يزينها الشيطان!

 

إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلاً جاهلاً غير ذاكر حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة.

 

لم يكن قرار محكمة الظلم المخالفة للفطرة قرارا بالاجماع، إذ خرق الإجماع شخص من بينهم، وكان رأيه هو الرأي.

 

إن هذا المخالف رغم ضعفه وعدم وجود مناصر له وقف موقفا يعلمنا فيه أسس قيام السياسة، وكيف تنصر المظلوم من غير أن تُؤذى في حالة ضعفك.

 

تفاصيل ذلك سيكون في المشهد التالي بإذن الله…

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين