تأملات في سورة يوسف -6-

  تآمر الباطل الكثير لا يجعله صوابا

 

 

(إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [سورة يوسف : 8]

 

طالما تغنى العالم بتقدمه وتطوره حينما سلم الحكم للأكثرية، متجاهلا أن الباطل عادة يفوق الحق كثرة.

 

ها هو عدد البشرية فاق الستة مليار نسمة، خمس مليارات منهم يكفرون بالله تعالى، فهل صارت كثرتهم حقا؟!

 

إنهم بهذا الفكر يرسخون لحكم أنطمة الباطل، بل حينما تكون الكثرة أحيانا للحق، ويوشك أهل الحق تسلم حركة الحياة، سرعان ما ينقضون عليهم ليعدوا دفة الحكم للباطل.

 

ولكن سيبقى الحق حقا كثر أو قل وسينصتر على الباطل في المعاركه الفاصلة كثر أنصار الباطل أو قلوا، فتلك سنة الله: 

(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ  وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة : 249]

في ثنايا تأملاتنا في هذه الآية سنتحدث عن موطن الشاهد الذي دعاني للتقديم بهذه المقدمة بين يدي هذه الآية من سورة يوسف عليه السلام.

 

الآية التي بين أيدينا تجسد حقيقة لا يمكن تغييرها وهي :

أن اعتقاد أهل الباطل أنهم على الحق بداعي الكثرة، وهم مفرط ساقهم إليه عميق الجهل، والكبر والحسد اللذين طمسا نور الفطرة.

 

وفي ذات الوقت تصور الآية، أحداثا وحوارات

في مؤتمر شيطاني يعقده إخوة الدم، الذين شيطنهم الحسد ذاك الذي أخرج إبليس من الجنة. 

يتم فيه التباحث بشرٍّ ما كان للإخوة أن يفعلوه بأخيهم لو لم يكن هذا الشعور قد شغلهم طويلا وطفا على قلوبهم.

 

ياله من أمر خطير وغريب ذلك الذي اجتمعوا لأجله!!!

إنهم يوضحون بهذا المؤتمر سنة أهل الباطل حينما يضيقون ذرعا بالحق وأهله.

 

لم يجتمعوا لمساعدة أخيهم، ولا لإدخال السرور عليه وصد الأذى عنه، بل للأسف اجتمعوا بشأن التخلص منه!  .

 

طريقة معالجة من شيطن إبليس قلوبهم، لا تكاد تختلف عبر الزمن، ألا نتذكر ذلك المؤتمر الذي عقدته قريش للفتك بمحمد عليه الصلاة والسلام حيث اجتمعت بدار الندوة وحضر الشيطان ذلك الاجتماع على هيئة رجل من نجد وحينها نزل القرآن يحكي مكرهم المهزوم أمام مكر العظيم الجبار سبحانه:

 

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ  وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة ا?نفال : 30]

 

ولكن مادام الله خير الماكرين فلا نخشى مكر الطغاة والمجرمين، مهما علا صوتهم وعظم كيدهم وكثرت مؤتمراتهم.

 

وها أنا أتأمل بهذه الكلمات التي استوقفتني زمنا:

 

"إن أبانا لفي ضلال مبين":

 

إنها تحكي أسلوب من يبيتون إزاحة معارضيهم من طريقهم.

 

إنهم يحاكمونهم ويصدرون عليهم الحكم الذي يشتهون، ويبررون لأنفسهم بعد ذلك بما يزيح عن كاهلهم ألم لوم النفس التي جعلها الله بين جنبينا لتصرخ بنا وتنبهنا كلما حدثتنا بفعل السوء.

 

إنهم بتلك الحجة الواهية، يخفون دفين حسدهم.

لقد جعلوا من توهمهم ضلال أبيهم، سببا يسكت في داخلهم كل لوم، وهذه سنة الظالمين ..

 

وهل يفوتهم أن أباهم نبيا، والنبي لا يضل؟!

 

إنهم يكممون حتى أفواه أنفسهم، ليعلو صوت الغيظ ورغبة التخلص من أخيهم بأي وسيلة.

 

 إخوة يوسف – والكثير من الناس – يرون  أن الأكثرية دائماً على صواب وغيرهم على خطأ.

 

والآية هنا تبدد بقايا هذا الوهم الأحمق بشأن الأكثرية، في نسيج بيانها لطريقة تفكير من ظهر للعيان خطؤهم فيما بعد، مع أنهم كما قالوا عصبة:

 

"إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا ، ونحن عُصبة ...".

 

وقد أكد القرآن الكريم خطأ هذه النظرة غير مرة منها مثلا :

 

 (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ  إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [سورة ا?نعام : 116]

 

ومن جانب آخر يبين أنه قد ينتصر القليل بصوابه على الكثير بخطئه:

 

" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " لأنها على الحق والله تعالى معها في دفع الباطل ومحاربته .

وهذا ما قدمنا به الحديث بين يدي الآية آنفا.

 

ويا عجبا للحسد كيف يعمي بصيرة صاحبه!!!

فقد طمس الحسدُ الإحساس بالإخوة؛ لذلك لم يقولوا وأخونا، بل قالوا( وأخوه)، لقد طمست الإخوة، التي لو اتقدت بين جنبيهم لمنعتم من التفكير بأذية أخويهم.

 

طمست لمنع أي مشاعر داخل أنفسهم من شأنها أن تحول بينهم وبين ما أرادوا من مكر وأذية لأخويهم.

 

كما سبق وطمسوا النفس اللوامة بإسكات صوتها بحجج واهية يتخلصون بها من لومها على ما سيفعلونه من خطأ.

 

وتتصدر كلمة ضلال مشهد الصراع في كل مرحلة من مراحل حياة وقصة يوسف عليه السلام:

 

"إن أبانا لفي ضلال مبين".

 

امرأة العزيز تلام من النسوة:

"إنا لنراها في ضلال مبين".

 

إخوة يوسف يؤكدون ما اعتقدوه بداية، حينما يذكر يعقوب ريح يوسف فيقولون له:

 

"إنك لفي ضلالك القديم".

 

وهكذا نجد أنهم أرداوا أن أباهم مخطئ بتمييز يوسف عليهم، وليس مرادهم بالضلال المرادف للكفر، عياذا بالله تعالى.

 

ولكن يعقوب عليه السلام لم يكن مخطئا بتمييز يوسف كما يعتقد البعض، وذلك أن له أسبابه والتي منها:

 

يوسف يتيم الأم فحاجته للحنان أكثر من إخوته الذين كانوا بسن الرجولة.

 

إن يوسف كان صغيرا وحاجته للعناية أعظم من حاجة الكبار من أولاده.

 

ولكن حينما يفرط بعض الآباء بتمييز أحد الأولاد عن إخوته، بحجة الاقتداء بيعقوب عليه السلام، نقول له: لا تفعل، فأنت لست كيعقوب.

 

إن هذا الإفراط في تمييز ولد على آخر، قد يوقع بين الأولاد ما يثيرهم على بعض، ويجعل تنافسهم على قلبه، هدفا يمكن أن يصل بهم لقتل بعضهم مقابل اصطفاء قلب الأب.

 

أيها الأب الكريم؛ لا تبن مملكتك على جماجم أولادك، ولا على حساب تغليف قلوبهم تجاه بعضهم بلون الحسد المقيت المفضي للتنازع .

 

اعدل في عاطفتك تقتل مداخل الشيطان في نفوس أولادك نحو بعضهم.

 

مكان الابن عند أبيه هو مطمح كل ابن، فلنمنحهم تلك المكانة، ولا نحوجهم للخطأ لينالوها.

 

مرة أخرى أقف مذهولا أمام عظمة القرآن وأنا أتأمل هذه الجملة القرآنية:

 

(إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِين)

 

فهي تحكي لكنا كيف يؤكد ضعفاء الحجج حينما يتكلمون بما لا يقتنعون به، فيسوقون كلامهم بأساليب التوكيد، كما هو هنا:  أسلوب الجملة الإسمية التي تزحلقت فيها لام الابتداء إلى الخبر بعد دخول إنَّ.

 

ويالروعة البيان، الذي يأخذ بالقلب والجنان وأنت تتلو قوله (إذ قالوا):

 

لقد لخص بها واقعا مؤلما نعيشه، حيث إن المتكلم على الحقيقة واحد، إذ لا يعقل نطقهم بالعبارة نفسها في الوقت ذاته، ولكن تكلم واحد وصمت الباقي جعل القول يشملهم جميعا.

 

إن القرآن فيض معان لا ينتهي،  وعجائب لا تنحصر.

 

لطالما أبهرنا بعجائبه، فأجدني في هذه التأملات أمام إيجاز وبيان يلخص بهذه الآية - التي لم تتجاوز كتابتها السطر - مؤتمرا عقده إخوة يوسف للتخلص منه.

 

وكأنه أعطانا البيان الختامي الذي يصدر عادة بعد الانتهاء من المؤتمر.

 

مع أن مؤتمرات العرب اليوم تكتب البيان الختامي قبل البدء بالمؤتمر أصلا، أما هنا فالقرآن يذكر ما انتهوا إليه بعد بحث طويل.

 

ولعل متسائلا يقول: وما الحوار الذي دار بينهم ليكون البيان الختامي بهذه الصورة؟؟!!

تفاصيل ذلك المشهد، ودروسه في الآيات التالية، إن شاء الله فابقوا معنا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين