تأملات في سورة يوسف (4)

 

    (اصطفاء الله لأوليائه)

 

(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ  إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة يوسف : 6]

 

قصَّ يوسف عليه السلام رؤياه على أبيه، وأبصر الوالد من خلف رؤياه خيرا محفوفا بخطر ربما لم يدركا أبعاده، ولكنها فطرة الأبوة الحانية، التي تهمس في حنو ووجل:

"لا تقصص رؤياك على إخوتك".

 

تذكرت وأنا أتأمل خوف يعقوب وتحذيره، نداء حانيا لطالما هز وجداني، وحرك أشجاني، وأبكاني، يوم نادى نوح ابنه : ( يابني اركب معنا)، ولكن الابن عقَّ أباه، وحال الموج بينهما، وكان الغرق مآله والقبر مأواه.

 

وظلت عاطفة الأبوة تنزف والقلب يتضرع، حتى أتاه النبأ:  إنه ليس من أهلك.

 

ليت الأبناء يدركون أي وجل يتملكنا عليهم ونحن نعظهم من خطر نبصره ولا يبصرونه، ونعظمه ويحقرونه.

 

كانت رؤيا يوسف عظيمة، وتشير إلى مكانة يريدها ربه له، فراح الأب يزف لابنه بشرى الاجتباء والاصطفاء من رب الأرض والسماء.

 

هكذا يجب أن نعامل من أتانا هاربا من خوف أصابه، أو رؤيا أهالته وأطارت صوابه، بالتطمين، والتشجيع، فتلك الإيجابية في التعامل لها وقعها في تحفيز النفس نحو الخير.

 

يا للمكانة التي نلتها يا نبي الله بوسف!!!

 

إنَّ الذي يجتبيك ليس ملكا انحنت العمائم أمام دنياه، تزين إجرامه وفساده وفق هواه…

 

وليس غنيا تتزلف النفوس الضعيفة إليه وتقبل ذلا يداه.

 

إن الذي سيجتبيك هو الله .

يارب سبحانك!!!

 

سبحانه، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.

 

أنت القادر على أن ترفع وتخفض، وتعز وتذل، وتعطي وتمنع، تعطي من تشاء بفضلك وتمنع من تشاء بعدلك..

 

ومع هذا جعلت للاجتباء والاصطفاء طريقا واحدا لا ثاني له، إنه العلم.

 

وبعد حين سنجد كيف يرفع الله الابن فوق أبيه، لا بقوة ولا بجاه، ولكنه بالعلم، وقد سبق أن رفع الله سليمان على داوود عليهما السلام وكلا آتاه علما وحكمة:

 

(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا  وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الانبياء : 79]

 

ولما ذكر سليمان نعم الله عليه، كان أولها :( وعلمنا منطق الطير) ..

ولما أراد الله إقامة الحجة على ملائكته بشأن آدم، علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فلما عجزوا، أَمَر الله آدم أن يخبرهم بها، ليدلنا على أنه لا رفعة بغير العلم.

 

يامن لا تحسنون تلاوة القرآن كيف تفتون بفهم ما لاتحسنون تلاوته؟!

 

بل كيف تستبيحون دما لا تعظمون حرمته؟!

 

اعلموا أن الحكم لا يثبت بالسلاح، ولكن يثبت بالعلم، ولطالما غلب دهاة الحروب جيوشا جرارة بعلمهم وخبرتهم.

 

ولكن ليس كل علم يرفع صاحبه، فلابد من العلم الذي يحتاجه الناس، فمن درس علما لا يحتاجه الناس لم ينل الرفعة ولا المكانة.

 

وما أحوج الناس لعلم الرؤى اليوم لا سيما لأمة عدد ساعات نوم أبنائها أكثر من عملهم وابداعهم!!!

 

أكثر الكتب مبيعا في مكتبات المسلمبن اليوم هي كتب الطبخ وتأويل المنامات؛ لأننا أمة اهتمت بالنوم والطعام فخضعت رقابها لحكام الظلام.

 

"ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب"، ذلك أن صلاح الفرد ينعكس على أسرة بأكملها: 

العلم يرفع بيتا لا عماد لها

                والجهل يهدم بيت العز والكرم

 

ولأن العلم طريق نجاح وتحقق حلم يوسف، كانت خاتمة الآية :{ إن ربك حكيم عليم}.

 

حكيم بجعل الأمور في مكانها ونصابها.  عليم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.

 

ويسدل الستار على مشهد يوسف مع أبيه، ليرفع في الآيات التالية عن مشهد جديد إيذانا بنهاية المقدمة. وبداية رحلة نخوضها في أعماق التاريخ، فنبصر طفولة وصراعا، ورحلة عناء ما كانت في حساب يوسف ولا حساب أبيه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين