تأملات في سورة يوسف (17)

التشريف والتكليف غنم وغرم

 

 

 

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ? وَكَذَ?لِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [سورة يوسف 22]

 

ولت مراتع الصبا، ومازالت أيام الرق تمضي بثقلها على نفس ولد صاحبها حرا، وألفت الفيافي والقفار.

 

لا شيء أثقل على نفس الحر من حياة رق وعبودية يلزم بها حينما تغيب الإنسانية، وتَحجب الشيطنة نورها، ويقودُ النفوسَ الحسدُ والحقد المفضي للجريمة. 

 

لكنها المحن التي سنها الله تعالى، لتصنع السائرين في الطريق إلى المجد والاصطفاء، وقد أخبر نبينا عنها ففي الحديث: 

 

عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ:

"الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ" رواه ابن ماجة.

 

وإن سألت لم سنَّ الله المحن طريقا لمن يريد لهم المجد؟

ذلك أن التشريف الحصال من التكليف غنم وغرم، فلا يمكن حصول الغنم بلا غرم، والمجد غنم، والمحن غرم.

 

بدأ يظهر جمال الشباب على يوسف عليه السلام كزهر تفتح بأجمل الألوان وأطيب العطور.

 

ولاح نور مجد شع بريقه من خلف حجب محنة قلما يسلم أحد من الوقوع فيها ممن يتعرضون لمثلها.

 

وهل غير المحن سبيل لإدارك حقيقة الرجال، وكشف القدارت الكامنة في أشخاص ما كان يؤبه لهم؟!.

 

فكم اكتشف رؤساء شركات كبرى أن فراش الشركة يحمل شهادة جامعية لو توظف بموجبها لأفاد الشركة بخبرات تزيد أرباحها وتسهم في تقدم نجاحها، ولولا موقف صعب كان الفراش فارسه، لما عرفوا خبرته، ولما أدركوا أن قلة ذات اليد ألجأته للعمل فيما لم يخلق له.

 

وكم من زعيم أُنقذ من هلاك محتم لولا شجاعة جندي لا نجوم على كتفه ..

 

والأمثلة. كثيرة، فطالما ولد من رحم المحن منح، لو أنفقنا ما في الأرض ما كنا لنحصل عليها.

 

اليوم يتحدث الجمال ويقول كلمته .. ويسهم في محنة تتولد منها بإذن الله منحة يعود نفعها على الناس.

 

لنعلم أن جمال الدنيا كان بكفة وجمال يوسف عليه السلام بكفة أخرى…

 

لا تسألني عن جماله، فثمَّ موضع في قصته يكون الحديث فيه عن الجمال، وجمال يوسف عليه السلام خاصة، وستعرف حينها لم أخَّر القرآن الحديث عن جماله  ..

 

وفوق الجمال الذي لاحت مفاتنه، رجولة مزدانة برجاحة عقل وصفاء السريرة، وتوقد الذهن الذي يصل لدرجة القدرة على قيادة أمة، ولو كلفها لكان أمينا عليها.

 

بل وكل تلك الملكات والجمال يكاد يذهب بالعقول، فكيف إن كان ذلك كله أمام عيني من تربى في بيتها ترقب رقي جماله صباح مساء، وهو عبد عند زوجها في بيتها لا حول له ولا قدرة، يمكن نيل المبتغى منه بسهولة لو قُصد ذلك، وفقا للعرف العام في الشأن العبد؟!

 

وبأبلغ بيان وأجمل الكلام، يصف القرآن كيف كان زمن بلوغ يوسف عليه السلام حيث قال: ( ولما بلغ أشده ).

 

لم يكن زمن ركض وراء شهوة فانية، أو لذة عابرة.. 

لم يكن مر بشذوذ المراهقة وانحرافاتها عن سبيل الفطرة…

 

وليت الآباء قبل الأبناء يعون أنه لا وجود لشيء اسمه سن مراهقة يعذر فيه البالغ على حماقاته، وتركه لما ينبغي أن رباه أبواه عليه من دين وخلق، فتلك السن بداية كتابة القلم على العبد، فإما بلوغ المرء أشده واعيا، قائدا، يحمل ملكات وطاقات بناء أمة، وإما بلوغ ضعيف لا يحسن صاحبه السيطرة على نفسه فضلا أن يكون قائدا لأمة. 

 

ولو خضت في أعماق مطلع الآية والحديث عن اشتداد عوده عليه السلام، لما وسعت كلماتي صفحات، إذ بين كل حرف منها حكاية عفة وطهارة،  فتلك معالم النبوة وإرهاصاتها تلوح من خلف ذلك كله.

 

بل تلك المرحلة من حياة الإنسان عامة، طالما سجل التاريخ لها أسماء عظماء منهم: 

أسامة بن زيد قاد جيشا فيه أبو بكر وعمر، كان ابن 17 سنة. 

ومحمد الفاتح، فتح القسطنطينية وهو ابن 22 سنة ..

 

ثم قال سبحانه وتعالى: " وآتيناه حكما وعلما" :

إن اشتداد عود يوسف رافقه حكم وعلم…  ولكن عن أي حكم تتحدث الآية ويوسف حينها لا يزال عبدا في بيت العزيز؟!

 

وصدق من قال: 

وكيفَ نُحرِّرُ الأوطانَ يوماً   إذا الإنسانُ عبدُ مُستَرق

 

الجواب كامن في فصاحة وجمال ورعة التعبير القرآني المعجز: 

حيث يعبر بالماضي عما هو متيقن حصوله في المستقبل، ولذلك قال:( آتيناه ).

 

ومثله لما قال تعالى: (أَتَى? أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ? )

 

فقيام الساعة محتم الوقوع، لذا قال: ( أتى أمر الله) مع أنه لم يأت بعد، بدليل قوله: (فلا تستعجلوه)، فما مضى لا يستعجل، وهذا ما يوضح أن مراده ب(أتى) هو توكيد الإتيان لا أكثر.

 

وكذلك حديثه عما سيحصل حين تتزلزل الدنيا إيذانا ببدء عالم الآخرة، كان التعبير عنها بالماضي أيضا:(  إذا زلزلت الأرض).

وهكذا جمال وروعة بلاغة القرآن، حيث الحديث هنا عن العلم والحكم حديث عما لم يأت بعد لكنه آت لا محالة. 

 

وكذلك نجزي المحسنين: 

السؤال الذي يتبارد للذهن حينما يسمع (وكذلك نجزي) والمعنى ومثل هذا الجزاء كائن للمحسنين: 

 

ما هو الإحسان الذي بدا من يوسف عليه السلام، ليكون الحكم والعلم جزاء له؟

 

الجواب كامن في طيات بلاغة نص القرآن، حيث يشير إلى أن نيله الحكم والعلم كائن لإحسان يظهر من يوسف عليه السلام يجعله أهلا لهذا المقام، فالآية تتناول حديثا استباقيا لحدث لما يحصل بعد.

 

لا عجب أن الحكم كائن بعد إحسان سيظهر منه، حيث سنجد شهادة السجينين في يوسف لاحقا :

(… ُ ? نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ? إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة يوسف 36]

 

فبشهادة من سُجن معه أنه من المحسنين، وبهذا نعلم أن القرآن مترابط نصه، متماسك بقوة، يوضح بعضه بعضا.

 

فحينما يخبر أنه منحه الحكم والعلم لإحسانه، تعلم لماذا أجرى الله الشهادة بإحسان يوسف على لسان من سجن معه. 

 

انتهت المقدمات وبدأ ليل المحن يرخي سدوله، فامرأة العزيز لم تعد تحتمل صبرا ..

 

فماذا جرى في بيت العزيز؟

 

أي محنة تلك التي مهدت ليحكم يوسف الأرض؟

 

كيف واجه يوسف المحن وإلى أين تسير بنا الأحداث؟

 

تابعوا معنا تأملات في سورة يوسف…

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين