تأملات في سورة يوسف ( 16)

 

لعله خير!! 

 

(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى? أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ? وَكَذَ?لِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ? وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). [سورة يوسف 21]

 

في خضم معركة السعي نحو السعادة التي خططنا لنيلها بما استغرق منا الزمن والجهد، نتفاجأ بأن لا يحصل ذاك الذي سعينا لتحقيقه بغية نيل السعادة التي نلهث وراءها، ولا يقع حينها إلا الذي قدره الله لنا، ونصاب بضيق يكاد يطبق على صدورنا .. بل ربما نبكي لشعورنا بالفشل…

 

ولكن سرعان ما يسعفنا إيماننا بأن قدر الله وخياره هو الخير الحقيقي وإن غاب عنا إدراكه: "(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ? مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ? سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة القصص 68]…

 

ونردد بقلب مطمئن: " لعله خير".

 

في هذا المشهد من قصة يوسف عليه السلام نبصر، بل ونعيش ثمرات معنى هذا البلسم الشافي من كل أوجاع المحن .. بلسم اسمه : " لعله خير "… 

والذي عبر بيان القرآن عنه بقوله تعالى "عَسَى? أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا".

 

وفي أعجوبة البيان، وإعجاز القرآن، يتم التجاوز عن أحداث ليست من الأهمية بمكان أن تذكر تفاصيلها في نص القرآن، فسياق النص توقف عند حدود (يا بشرى هذا غلام)، ولم يصف لنا حال فرح يوسف حينما أنجاه الله؛ لأن ذكر ما ينتظره من مجد - بشر به وهو في الجب- أهم من ذكر فرحه بنجاة من محنة بسيطة مقارنة مع ما سيمر به من محن ..

 

المهم أنه خرج من غيابة جب دفن مع خروجه منه بقايا إنسانية ماتت في قلوب إخوة شيطنهم الحسد والبغضاء ..

 

كما لم يخبرنا عن تفاصيل ما دار حول بيع يوسف عليه السلام، فهناك ما هو أهم من ذلك…

 

نعم هناك خبر مصير القافلة وذكر الذي اشتراه بعد أن أسرّه القوم بضاعةً تباع وهم فيه من الزاهدين، فكثيرا ما يبيع الجاهل جوهرة ورثها عن أبيه بثمن بخس لكونه لا يعلم قيمتها.، فمن وجد شيئا بهون هان عليه ذلك الشيء.

 

فقط يذكر لنا من الذي اشتراه؟!

إنه عزيز مصر.

 

إن المكانة التي تناسب هذا الغلام الموعود بالمجد، في أن يذكر الذي جعل الله قدر مجد يوسف من قصره ..

 

حقا هو عزيز مصر !

 

فليس من أحد يليق بمقام كفالة يوسف إلا عزيزا كريما سيدا في قومه.

 

لم يكن عزيز مصر قد ذهب ليشتري يوسف ولا غيره، ولم يكن بحسبانه ذلك، ولكن قدر الله ساقه لما لم يكن يخطط، وقدر له خيرا مما قصد، فها هو يكفل الجمال في كماله، ويتوسم الخير في بهاء طلعته، وهل بغير الوجوه الصِّباح يتوسم الخير؟!

 

حقا لعله خير ..

 

لعله خير يا عزيز مصر .. فقد اشتريت عزيزا عند الله وعزيزا عند ابيه، وعزيزا في الدنيا بأسرها ..

 

وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن يوسف: 

"إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الرحمن عز وجل".

رواه أحمد.

 

ويا لعجيب وبديع نظم القرآن !

إنك لا تجد فيه عوجا ولا أمتا، ولا تناقضا ولا اختلافا، فالذي قال في غير هذا الموضع أن التمكين كائن بالقوة والعلم، هو ذاته الذي يؤكد هنا أنه مكن ليوسف بالقوة والعلم :

(قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ? وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ? وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة 247]

 

وابنة الرجل الصالح من قوم مدين قالت: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ? إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)

[سورة القصص 26]

 

وهنا يقول: "وَكَذَ?لِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث".

 

فلله در العلم وأهله، وحقا ما قيل: 

العلم يبني بيوتا لا عناد لها والجهل يهدم بيت العز والكرم

 

وتختم الآية بروعة البيان، وجميل مناسبته للمضون، بقوله: 

(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ):

 

حقا لا عجب أن يحقق ليوسف أسباب التمكين، فهو سبحانه فعال لما يريد، ولا يغلبه على مراده أحد، ولا يمكن لأي قوة في الكون أن تغلب أمره إذا أرده أن ينفذ.

 

ويمكن فهم الآية بمعنى آحر وهو أن الله غالب على أمر يوسف، حيث أن تحقيق رؤياه يسير بتنظيم وعناية ربانية، محاطة بغلبة ومعونة إلهية.

 

والسؤال الذي يطرح ذاته هنا: 

كيف يقول تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف ..." مع أن يوسف في هذه الآية لايزال ضعيفا، عبدا عند العزيز تم شراؤه من قريب ؟!

 

الجواب كائن في بلاغة البيان القرآني، فكل ما هو متيقن الحصول في المستقبل يعبر عنه بصيغة الماضي، تأكيدا أن قدر الله في تحققه حاصل لامحالة، كما لو أنه حصل ومضى زمنا على حصوله.

 

وهذا مثل قوله تعالى: 

( أتى أمر الله فلا تستعجلوه) فأمر الله لم يأت بعد، ولكن لكونه متيقن الإتيان عبر عنه. بقوله (أتى).

 

ومثله ( إذا زلزلت ..) ..

 

وهكذا كل أمر متيقن حصوله في المستقبل يأت بيانه في القرآن بلفظ الماضي.

 

انتهت الآية في بيان ما سيكون بقدر الله من تمكين يوسف في الأرض، ولكن المشوار لايزال طويلا، ولا يعلم يوسف عليه السلام ما ينتطره.

 

وفي الحقيقة بدأ مشوار الحلم .. 

وبدأت تظهر ملامح طريق المجد.. 

فمن بيت العزيز ستكون البداية ..

 

لكن محنة ستمر بيوسف عليه السلام .. واختبارا آخر.

 

فليس بلوغ المجد بالأمر الهين: 

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

 

وهذه المحنة تحتاج لاستعداد من نوع خاص ..

 

في محنة الجب: آنسه وعد وبشرى الوحي له بالفرج فاطمئن قلبه.

 

ولكن هنا محنة تتعلق بصراع بين أقوى طاقتين في الوجود: 

طاقة غريزة الجنس لدى الشباب وعنفوانه .. وطاقة العبودية وحقيقتها في قلب إنسان من سلالة سيد الموحدين وخليل رب العالمين إبراهيم عليه أفضل ابصلاة وأتم التسليم.

 

وها هو النص القرآني ثانية يتجاوز سني يوسف ونموه، ولحظات اشتداد عوده سنة بعد سنة، وما حصل من تطور في عظمة جماله .. لينقلنا إلى زمن يوسف وهو في ريعان الشباب ..

 

ومالذي أوتيه ليتمكن من مواجهة ما سيأتيه ..

 

تابعوا معنا… 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين