تأملات في سورة يوسف (13)

الدموع الكاذبة لا تخفي الحقيقة

 

(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ? وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [سورة يوسف 16: 17]

 

انهارت معاني الإنسانية، وباتت في جب عميق، يحتوي ضحية ضعيفة، زجها بذلك العمق إخوة الدم والنسب، إخوة ابتعدوا عن الفطرة، ولوثوها بالحسد.

 

عاد إخوة يوسف بعد تنفيذ جرمهم، وتركوا يوسف ليبدأ مشوار العذاب ..

 

كانت عودتهم في الليل، لأنه يخفي ملامح الوجه ويكشف حقيقة الدموع المصطنعة.

 

جاؤوا إلى أبيهم يبكون متلثمين بحزن كاذب مصطنع يخفون خلفه الحقيقة التي آلمت الحجر والشجر وما كانت لتؤلمهم أو تهز من كيانهم .

 

يالعجيب المكر الذي مكروه!!!

هاهم ثانية يستعطفون أباهم، بالنداء ذاته الذي سبق وأن أجابهم لطلبهم يوسف لما نادوه به: (يا أبانا)..

 

نعم إنها كلمة السر التي تفتح باب الرحمة للابن من قلب أبيه.

وتهيج مشاعر الأبوة الممزوجة بالحنان والرفق ...

تلك المشاعر التي لا يدرك حرارتها ابن عق والديه… 

ولا يحسن فهم لغتها من تطاول على أبيه…

 

أتذكرون معي ما الحيلة التي بموجبها أخذوا يوسف من أحضان أبيه؟!

 

إنها قولهم: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة يوسف : 12

 

فما بالهم يقولون الآن:

( إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا )؟

فهل أخذتموه ليلعب أم لتجعلوه حارسا على متاعكم؟

 

ولكن يكاد المريب يقول خذوني…  فالكاذب مهما كان حاذقا في ديباجة الكذب فإنه لا بد من زلة للسان تكشف كذبه ..

 

وقد سبق الوعد منهم لأبيهم:  ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) حيث أكَّدوا الحفظ بثلاث طُرق: 

ب: "إنَّ" ، وتقديم شبه الجملة "له" لإفادة زيادة الحرص، واقتران خبر "إن" بلام التوكيد.

 

أضف لذلك أنّ كلمةَ الحفظ ذاتها دالةٌ على الصيانة والحراسة والرعاية.

 

وقد أخلفوا وعدهم من عدة جوانب وأقروا بذلك: 

الوعد أن يلعب يوسف معهم، وخالفوا ذلك أن جعلوه حارسا لمتاعهم .

إذاً هو لم يشترك معهم في اللعب، وهذا أول تصريح منهم بمخالفة الوعد ..

 

ثم يأت السؤال: أي استباقٍ هذا الذي شغَلهم عن حراسة أخيهم حتى أكله الذئب، وقد أعطوا العهود والمواثيق لأبيهم بحفظه؟!

 

إن من يعطي مثل تلك التأكيدات حري به أن لا تغفل عنه عينه لحظة واحدة؛ لأنه تحمل أمانة تثقل كاهله بهذه التأكيدات.

 

ولكن؛ لأنهم كانوا كاذبين، جعلوا يختلقون الحكايات وبادروا أباهم قبل أن يسألهم ليغيّبوا عنه الحقيقة بطريقتين:

بإدخال الباءِ على خبر "ما" التي تفيد التوكيد ? وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ ?، وبادِّعاءالصِّدق

? وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ?.

 

يا لروعة ودقة بيان القرآن لحكاية ما قالوه لأبيهم. 

ففي قولهم (ولو كنا صادقين) لفتتات كشفت كذبهم :

 

هم لم يقولوا مثلاً: "وإن كنا صادقين"، لأن "إنْ" حرف شرط جازم، يجعَلُ التعلُّق مقرونا بالمستقبل،  كالقول مثلاً: إن اعترفت بحقيقة الأمر عفوتُ عنك؛ فالإخبار والعفو سيكونانِ في المستقبل.

 

ولو قال الإخوة: وإن كنا صادقين، لكان ذلك مشيرًا إلى أن صدقَهم سيظهرُ فيما بعد، وبما أنهم كانوا كاذبين، فإن الاستعمالَ الدقيق ارتهن بـ: "لو"؛ فهو يتعلقُ بالماضي، ويُوقِف الادعاءَ في زمن الكلام ولا يجرُّه لزمن المستقبل كما تفعل "إن" .

 

ويمكن أيضًا أن يلحظ أنَّ "إنْ" جازمة و"لو" غير جازمة، ولأنهم كانوا كاذبين، وبذات الوقت عاجزين عن الجزم بالصدق الذي يدعونه، عدَلوا عن (إن) إلى استعمال ما لا جزم فيه، وهو "لو".

 

و الأعجب من ذلك:  (أكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، وهل سبق له أن كذّبكم حتى تسكتوه بهذا القول؟

لتمنعوه حتى من مجرد التفكير في تكذيبكم؟

 

ألم تكذبوا من قبل بقولكم: أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ؟

ومع هذا صدقكم .. فلم اليوم تدّعون عدم تصديقه حيث قلتم: ( ولو كنتم صادقين)؟!

 

ولكن الجرم لا يمنح المجرم استقرارا فكريا، مهما كان يملك من العبقرية التي تسعفه في التخلص من أصعب المواقف؛ لذلك تجده مرتابا وهو يحاول إنكار جرمه. 

ذلك أن الجرم يصغّره أمام نفسه، ويهزّه من الداخل بعنف، فمهما بدا متماسكا فإن عوامل الانهيار ستبدو عليه رغما عنه.

 

هل يكفي الكلام لإقناع والدهم بحجتهم؟

وما هو موقف الأب المسكين وكيف تقبّل الأمر؟

 

تابعونا لتعرفوا البقية ..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين