تأملات في سورة يوسف (12)

وسط ظلمات المحن يشع نور الفرج

 

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ? وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَ?ذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [سورة يوسف : 15]

 

بعد إلحاح واحتيال، وتفنن في أساليب استمالة قلب الأب، استسلم لأبنائه وسمح لهم بأخذ يوسف.

 

ومع سماح يعقوب لبنيه باصطحاب يوسف، وتسليمه لهم تحت ضغط مطالبهم، تبدأ رحلة معاناة يوسف وتهب رياح المحن.

 

كان يعقوب عليه السلام يعلم يقينا أن إخوة يوسف سيكيدون له، وهو الذي حذرهرحينما قص يوسف عليه الرؤيا:(قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى? إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ? إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[سورة يوسف 5]

 

ولكن من المقدور لا ينجو الحذر. 

وربما لم يكن يتوقع أن يصل الأمر للقتل أو أن يلقى في غيابت الجب، لذلك لم يحتط لنفسه مما حذر منه ولده.

 

لقد استقر أمرهم أن يجعلوا يوسف في غيابت الجب، ويسلموا طفولته البريئة وضعفه لليأس والهلاك المحتم.

 

ولكن مهما مكر الماكرون، فهناك من يسمع ويرى، ويعلم السر وأخفى.

 

فمن وسط ظلمات المحن شع نور الفرج، ولا أمله،

ومهما ظن الماكرون أنهم قادرون على سلبك حياة قدرت لك، أو مجدا كتب لك، أو رزقا ساقه الله إليك، فإن الواقع سيكذب ظنهم، ويشعرهم مع الوقت بعظيم عجزهم، فما كان لأي قدرة مهما عظمت أن تتحدى قدرة الله تعالى وحكمته ولو كثر عددهم واتحد رأيهم.

 

واعلم أنه حين يسلمك من يريدون أن لا يروك حيا للهلاك المحتم، تدرك حينها أثر كلمات الوحي التي تأتي لتؤنس نفسك المتعبة من صنيع من خالفوا الفطرة وأسلموا أنفسهم للهوى.

 

وحينما أقرأ قوله تعالى (أوحينا إليه ):  يتولد في نفسي شعور بروعة وحنو نداء الوحي، الذي أتى كماء بارد على ظمأ، وأُنس في وسط ظلمات الوحشة.

 

والأجمل من ذلك كله أنه قال: ( أوحينا) فالذي تولى الأمر كله هو الله وحده، وأتى ب (نا) الدالة على العظمة في إشارة إلى أن عِظم مكرهم سيكون له بالمرصاد عظيم، عظمته فوق مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.

 

( لتنبأنهم بأمرهم هذا ):

صعب ما فعلوه بك، وجريمة بشعة أن يسلموا طفولتك الغضة للمحن والمتاعب، في وقت تحتاج فيه للحنان والرأفة، ولكن هو الله وحده الذي سيداوي جراحك ويمنحك فرصة تذكيرهم بصنيع لا يقود تذكرهم به إلا للحسرة والندامة.

 

حقا هو الله وحده الذي سينصرك عليهم، ويرفعك فوقهم.

 

أما قوله: ( وهم لا يشعرون): 

أي وهم لا يشعرون أن الذي أمامهم يوسف.

 

وتعلمنا هذه الآية الكريمة كيف تلوثت الفطرة حينما سُلِّم القلب للهوى والشيطان.

 

تعلمنا كيف تنتصر إرادة الله رغم مكر الماكرين واجتماع المتآمرين.

 

وكيف أن الله قد يسلم حبيبه لمحنةٍ وعذابٍ يطاله من قبل البشر، ولكنه سيمنحه بالمقابل لذة أنسه بنصره وتطمينه له بالنجاة من مكرهم مهما عظمت. 

وتبين موقفهم حين الندم .

 

يوسف الآن في غيابت الجب…

 

ولكن بأي عذر سيعود الإخوة إلى أبيهم الذي وثق بهم، واستأمنهم على أخيهم، حين يعودون إليه من غير يوسف؟.

 

ما هي دلالات تلك الأعذار وما الذي يسطره القدر في طياتها، كل ذلك وأكثر نعرفه في منشور قادم بإذن الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين