تأملات في سورة يوسف (11)

حينما ننسى التوكل على الله تأت المحن

(قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) [سورة يوسف 13: 14]

 

بات يوسف على مرمى حجر من بداية المحن، وتلاحق الاختبارات، وكيف لا يتسارع قربه من تلك المأساة، وإخوته هم من يقودون الحرب عليه.

 

ولكن هذه المرة سبب السرعة في اقتراب المحن فوات التوكل على الله، الذي هو خير حافظا، خطأ تداركه يعقوب عليه السلام في حادثة أخذ يوسف لأخيه كما سيمر معنا.

 

بالمقابل لا شك أن حرب الإخوة أشد ضراوة وفتكا، ولذلك يعمد الشيطان أن يحرض الأخ على أخيه، ويعتمد أعوانه على جعل الأخ يحارب أخاه تحت ذرائع شتى.

 

وحينما يحاربك العدو فنصرك عليه يعتمد على مدى استعدادك للمواجهة، وأنت مطئن أن أخاك يحمي ظهرك، ولكن إن كان الطعن في الظهر من أخ يربطك به نسب، أو من صديق جريمتك أنك ذات يوم وثقت به، فحينها باطن الأرض خير من ظاهرها، وستعلم ألم طعن من وثقت بهم. 

 

هاهو يعقوب يحاول إيقاظ ما بقي من رحمة في قلوبهم، ويصرح لهم بحزن سيصيبه على فراق يوسف.

 

حقا هو الحزن، ذاك الشعور الذي يغزو النفس بين حين وآخر، بقدر ما تهب عواصف المكدرات، والعجيب في الحزن أنه لا تترجمه الكلمات، ولكنها وحدها الدموع  وتلوي القلب وتعصر الأمعاء  تشير لذلك.

 

واعلم أنه حينما يعبر الإنسان عن الحزن ويقول: ( يحزنني)، أن الذي أمامه لا يملك مشاعر تحسن قراءة حزنه، وأنى لنفوس ملأها الحسد، والكبر وأعمى بصيرتها الأنا أن تفهم أو تقرأ؟!

 

ويا لعجيب الحسد كيف يفعل بصاحبه، إنه يجعله خارج منظومة البشر، لقد طار بهم الحسد إلى مرحلة الإصرار على التخلص من يوسف بأي ثمن، لذلك لم تكن أحزان يعقوب لتشفع له عند بنيه الذين ظلموا أنفسهم وأخاهم وأباهم.

 

لقد هاجت أحقادهم وعميت بصائرهم أكثر لما أدركوا مدى تعلق يعقوب بيوسف الأخ والخصم معا.

 

ترى مالذي دفع يعقوب عليه السلام أن يوضح لبنيه هذا الإحساس، حتى كأنه يدافع عن نفسه؟!

 

حقا هو يدافع عن نفسه لأنهم اتهموه بما أحوجه لهذا الدفاع، وقالو له:  مالك لا تأمنا على يوسف ..

 

كل ذلك ليكسروا أي حاجز يمنعهم من الظفر بيوسف، ولا يمكن لأبيهم أن يظهر لهم أنه لا يأمنهم عليه، فليس ثمة حجة عنده عليهم.

 

لذلك حذاري أن يقع أحدنا في شرك أصحاب المؤمرات، ونسمح لهم أن يضعونا بمكان المدافع الذي يريدونه أن نكون فيه، ليبعدوا أضواء اللوم عن ساحتهم، فلا يكشف زيف خبث نفوسهم أحد تحت ضغط اتهاماتهم.

 

وكان الأولى أن لا  ينحرج المرء من اتهاماتهم، لأننا إن تركناهم يعبثوا بمشاعرنا وعقولنا، فلن ننج من مصير كمصير يوسف عليه السلام.

 

ويا لبيان القرآن الذي يدهشني كلما تأملته، وأنصت لما وراء سطوره بعجب وتعظيم. 

ها هو قوله تعالى: ( وأخاف أن يأكله الذئب .. )، حيث توضح ان المرء ربما أعان خصمه عليه حينما يمنحهم الحجة التي ستقلب الأمور عليه.

 

لقد لقنهم الحجة التي تصدعت رؤوسهم وهم يبحثون عنها، إنها الحجة المطلوبة.

 

ومرة أخرى يقطعون العهود والمواثيق على أنفسهم بحفظ الأمانة ، ولكن الحقد والحسد، ما جعلهم يبصرون سوء عقابة ما ينوون فعله.

 

وبعد ذلك الجهد من المكر والخداع، يترك يعقوب يوسف مع إخوته، ليكتب القدر بداية الفراق المر، والمحن التي ستتوالى على الحبيبن يوسف ويعقوب.

 

انطلق يوسف يسير نحو المجهول، وأسدل ستار على زمان الأنس بالأب الرحيم، والحنان الذي طالما صانه وشمله.

 

تفاصيل تلك المحن في منشور قادم بإذن الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين