تأملات في سورة يوسف عليه السلام (18)

الاختبار الصعب والمحنة الكبرى (1)

 

 

 

(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ? قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ? إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ? إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [سورة يوسف 23].

 

اشتد عود يوسف _عليه السلام_ وبدا جماله الذي حاز نصف جمال الدنيا يتلألأ نوراً أبهى من أنوار الدنيا بأسرها. 

 

بدأت تتقد حوله نار الافتتان بذاك الجمال الأخّاذ،  في قلب من تبصره عن كثب، يسري لقلبها رويداً رويداً ..

 

مع الوقت لم تعد امرأة العزيز تتحمل أكثر من ذلك، إنها أمام جمال لا يوصف، ولا يقاوم ..

 

قد سطع ذلك الجمال على قلبها، فشغفها حباً، ولم تعد تبصر مكانتها، ولا جمالها، ولا عاقبة أمرها… 

صار جلُّ همها كيف تظفر بذلك الجمال الآخذ بالألباب .

 

إن سياط الحب باتت تشعرها بألم الشوق كلما أشرقت طلعته البهية. 

 

ولا يمكننا أن نظن ولو  للحظة واحدة بعد تأمل وتعمق في الآية- أن تصل امرأة بمكانة امرأة العزيز وجمالها لتتنازل عن عزة أنوثتها لتكون هي الطالبة والبادئة للرجل بالتعبير عن حاجتها له (وهذا ما جعل النسوة  -كما سنجد ذلك لاحقا- يستغربن  تصرفها).

و لولا أن ذلك الحب تدرج في نفسها مع الوقت حتى ملكها، لما وصلت لمرحلة أن أخرجها عن مسار الطبيعة التي عُهِدت بالمرأة من كونها لمثل هذا الأمر مطلوبة لا طالبة، ومرغوبة لا راغبة. 

 

بتصوير راق، وحبك متقن للمشهد، اختزل القرآن الحديث عما كان من بدايات أمر حبها ليوسف، فكلمة (راودته) أغنت عن ذلك كله، وحكت بين حروفها آلام عشق اشتعل فتيله من زمن بعيد، ووصل لمرحلة نار متقدة من الصعب إخمادها بغير ماء الوصال.  

 

لكن لحكمة أرادها الله تعالى أن يُعلِّم خلقه: 

أن من أُعطِي ما حُرمَه غيره لا يعني أن ذلك المُعطى قد ملك السعادة، فلطالما كانت النعمة امتحانا ربما أسقط صاحبه في هاوية الهلاك. 

 

وهذا الجمال الذي لم يعطه أحد كان كذلك بالنسبة لنبي الله يوسف عليه السلام، ولكنه نجا من السقوط وحلق في عالم الفضيلة، قدوة وطيبا، وباتت محنته رحماً ولدت منه أعظمُ المنح. 

 

تأملت في كلامه تعالى بهذه الآية، فوجدت وصفا عجيبا وأسلوبا لا نظير له،  يصف ما حصل - في بيت ضم يوسف منذ صغره، وكان سبب رعايته وحفظه - وكأنما الحدث يجري الآن، وذلك ببيان حركي وصفي عجيب، يشمل في طياته من المعاني ما يعجز البشر عن مثله. 

 

بعد تأمل ونظر وجدت ما أبهرني، وما جعلني أزداد حبا لجمال القرآن وبيانه، وكيف تراه يوصلك لفهم ما تعجز الكلمات عن بيانه، فتأمل معي: 

 

ففي قوله: " وراودته التي هو في بيتها" لفتة جميلة:

 

إذ لم يقل في بيت العزيز، ولا في بيته كإشارة له، مع أن ملك البيت عادة ينسب للرجل دون المرأة، لا سيما وقد بين آيات سابقة الإشارة لملكية العزيز للبيت في قوله تعالى: 

 

(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى? أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ? ) .. ومعلوم أن صاحب الأمر في البيت مالكه. 

 

ذلك أن العزيز أحسن ليوسف عليه السلام، ولا يناسب مكافأته بإلحاق السمعة السيئة به وقد كان سببا في رعاية نبي الله يوسف.

 

كما أنه لم يسء، بل زوجته هي التي أخطأت، لذلك لما كان الموضوع هنا حديثا عن الخطيئة، لم يشر للعزيز بشيء.  

 

وهذا يدلنا على وجوب عدم الإساءة للفضلاء إذا وقع أحد ذويهم ومقربيهم في خطأ، إذ لا ذنب للفضلاء بأن يحملوا جريرة ما لم يفعلوه.

 

وكأني أحسب أنه يلمح  من قوله: " التي في بيتها":  أنه يتعذر لها أيضا، فمن كانت في مكانها، تشهد مثل ذاك الجمال في بيتها، من المحال أن تصمد… 

 

ويبين من جانب آخر عظمة الفتنة، التي حصلت ليوسف عليه السلام، إذ أن دعوة امرأة لرجل لنفسها وفي بيتها من أعظم الحالات التي تضعف الرجل عن مقاومة ذلك النداء الأشبه بمغناطيس شدة جاذبيته من القوة بمكان أنها لا تقاوم. 

 

وفي قوله: " راودته التي هو في بيتها" ملمح رائع: 

 

راود فهل تعدى لمفعوله ب (عن)، ولما كانت المراودة تشير الى حركة( المراودة تعني الحركة بدهاء)، و(عن) حرف جر يدل على المجاوزة، فكأنها تجاوزت بحيلها وأنوثتها ما  يجرده عن السيطرة على نفسه، بحيث تملك نفسه هي  وحدها، دون أدنى مقاومة من نفسه لطلبها. 

 

والظاهر كما أشار كثير من أهل التفسير، أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه، فلا يقاومها ولا يصدها. 

 

لازلت أعيش في جماليات وروعة بيان القرآن في هذه الآية التي أجدني سأكتب المطولات عنها لو أسعفني الوقت والقلم. 

 

ولكن سأدع قلمي يتابع مدادده في منشور قادم حول هذه الآية، كي يتاح لي أن أفرغ كل ما في قلبي من تأملات لها، بما لا يطيل المنشور فيمل قارئه. 

 

تابعوا معي مشهد المحنة الكبرى والاختبار الصعب في حياة يوسف عليه السلام. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين