تأشيرة الوصول


بقلم : م. عبيده أحمد الحلاق


عندما تقرر السفر إلى دولة ما, فإن أول ما تفكر به هو تأشيرة الدخول ( الفيزا ) لهذا البلد, و هذه التأشيرة لها متطلبات للحصول عليها, و هي وعد من الجهة المسؤولة عن هذا الأمر بالدخول إلى هذا البلد بمجرد تحقيقك للشروط المطلوبة, و وصولك إلى بوابة هذا البلد أو ذاك.
 و لكن, هل يمكن لهذه الجهة أو تلك أن تمنحك تأشيرة الوصول, أو وعداً بالوصول لبلدها ؟, إنهم لا يضمنون لك الوصول مهما كانت الشروط و لكن يضمنون لك الدخول إن وصلت حدودهم بعد تحقيق متطلبات الحصول على تأشيرة الدخول.
و لكن الله تعالى قبل أن تبدأ السير في الطريق سيمنحك تأشيرة للدخول, و تأشيرة الوصول للمحطة الأخيرة ما دمت قائماً على الشروط التي حددها الله تعالى.
 فالله يمنحك وعداً بالوصول, و ضماناً للسلامة في الطريق, إن أنت قدمت المتطلبات اللازمة لهذا الطريق.


 و وعد الله لا محالة محقق, إن الله لا يخلف وعده. حيث يقول الله تعالى :
(وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم 6.
و حيث أن متطلبات الحصول على تأشيرة الدخول منشورة في الدستور الرباني, و هي مفتوحة و متاحة للجميع, ليست حكراً على عربي دون أعجمي, و لا على أبيض دون أسود, فهي لمن يستطيع تحقيق

متطلباتها و القيام بمقتضياتها. حيث يقول الله تعالى :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ) النور 55 – 57.
حيث حدد الله تعالى في دستوره الرباني, شروط الحصول على تأشيرة الوصول بالإيمان, و العمل الصالح.


 فعند تحقق هذين الشرطين, و كل مقتضاتهما ستكون خلافة الأرض من حق الفئة التي حققت الشروط, و وعدت بالعمل بالمقتضيات, و سيكون الأمن من نصيب هذه الفئة, و سيمكن الله لدينها الذي تدين به لله و يجعل الحاكمية له.
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله تعالى, حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كلية و توجهه, فما تكاد تستقر هذه الحقيقة في القلب, حتى تنقلب واقعاً تتمثل فيه هذه الحقيقة.
 و الله تعالى لن يسمح لنا بالوصول, و لن يمنحنا تأشيرة الوصول ما لم يتحقق هذا المطلب, و تتأكد هذه الحقيقة في القلوب أولاً.


و إن الله تعالى لم يأذن للمسلمين في الجيل الأول الذي هو جيل أمناء العقيدة, بالإنتقال من العقيدة و الحديث عنها و التربي عليها إلى مرحلة بناء المجتمع الإسلامي العضوي الحركي إلا بعد ثلاثة عشر عاماً من تأكيد هذه الحقيقة العظيمة و تثبيتها في القلوب.
و قد رسم الله في الدستور الرباني الخطوط العريضة, و العناوين الكبيرة التي توصف شخصية المؤمن الصادق و العابد المخلص و كل الجزئيات الأخرى تندرج تحت هذه الخطوط العريضة. حيث يقول الله تعالى :


(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) الحجرات 15.
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) النساء 76.
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
) الأنفال 2 – 4.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) المائدة 54.


( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ) المؤمنون 1 – 11.


( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً ) سورة الفرقان 63 – 71.


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ۚ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ) النساء 136.


و نلخص هذه الخطوط العريضة التي تعبر عن شخصية المؤمن الحقيقية بما يلي :
-    الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر.
-    الجهاد في سبيل الله بالأموال و الأنفس.
-    الفزع و الخوف عند ذكر عذاب الله أن يطالهم هذا العذاب.
-    الخوف و الفزع عند ذكر الجنة أن لا يكونوا من أهلها.
-    زيادة الإيمان و الإطمئنان بذكر الله.
-    التوكل على الله.
-    إقامة الصلاة, و الحفاظ عليها, و الخشوع فيها.
-    أداء الزكاة, و الإنفاق في سبيل الله.
-    الحب المطلق لله.
-    خفض الجناح للمؤمنين, و العزة على الكافرين.
-    عدم الخوف من لومة لائم في الله.
-    الإعراض عن اللغو, و الجدل.
-    الإبتعاد عن مقدمات الزنا, و حفظ الفرج.
-    أداء الأمانات, و الإلتزام بالوعود و العهود.
-    المشي بوقار و سكينة, من غير تكبر و لا مرح.
-    عدم الرد على السفهاء بسفه و بما يجلب الإثم.
-    التوجه دائماً إلى الله بالتذلل و السجود و القيام.
-    التوجه دوماً بالدعاء إلى الله بالوقاية من العذاب.
-    الإعتدال في الإنفاق لا إسراف و لا تقتير.
-    عدم الإشراك بالله بالقول و الفعل.
-    عدم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.


إن حقيقة الإيمان مجرد أن تستقر في القلب فإنها لابد و أن تنعكس معلنة عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، في تناغم و توافق و توازن تام بين الباطن و الظاهر بين الدنيا و الآخرة لتظهر شخصية المسلم الحقيقية البعيدة كل البعد عن الإنفصام التي لا تعاني من التناقضات الحادة بين الإعتقاد و بين الواقع و العمل إنها شخصية متكاملة متوازنة.


العمل الصالح إنما يأتي تتويجاً للإيمان المتجذر في عمق القلوب, فالعمل الصالح لا يمكن أن يكون إلا نتيجة حتمية للإيمان الصادق العميق.
 فلم تتحول العقيدة إلى حركة مجتمعية تتمثل فيها إلا بعد ثلاثة عشر عاماً من التربية و المتابعة الدؤوبة للجيل الأول حتى علم الله منهم الصدق, و علم أن العقيدة أصبحت راسخة في القلوب, و تكفي لتصبح واقعاً عملياً متمثلاً في مجتمع و أمة.


العمل الصالح هو تصديق الإيمان فالله تعالى لا يقبل إيماناً باللسان فقط, و إنما لابد لهذا الكلام الطيب أن يكون نابعاً عن إيمان صادق, و عقيدة متجذرة في القلب,  يصدقها العمل الصالح الذي به يرتفع الكلام الطيب إلى الله و يقبله. حيث يقول الله تعالى :
( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر 10.


و قد كره الله من المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون, كره الله من المؤمنين أن يقولوا آمنا و لم يرى منهم عملاً يصادق إيمانهم. حيث يقول الله تعالى :


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ
) الصف 2 – 3.
و بعد أن قدم الله الوعد للذين آمنوا و عملوا الصالحات أردف الوعد مبيناً صفة الإيمان بجملة شاملة كاملة جامعة للإيمان فقال ( يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ) و في آخر المقطع تأتي متطلبات الإستمرار و هي إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و طاعة الرسول ثم يردف الله مطمئناً الواصلين إلى نهاية الطريق أن لا تخافوا الذين كفروا فإنهم ليسوا بمعجزي فإن أنتم التزمتم العهد التزمت حمايتكم منهم و من مكرهم.
و هذه متطلبات الحصول على تأشيرة الوصول, و الله المستعان ...

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين