تأسيس دولة الأشراف العلويين في المغرب

 

حدث في السابع من رجب

في السابع من رجب من سنة 1060 بويع المولى مَـحْمد بن محمد بن علي السِجِلْماسي في فاس على إمارتها، ولكن أمره لم يدم لأكثر من 40 يوماً اضطر على إثرها لأن يغادرها دون أن يستطيع العودة إليها، وكانت بيعته ثم انتكاسها أحد التقلبات التي مرت عليه في كفاحه ضد الدولة السعدية ليؤسس على أنقاضها دولة الأشراف العلويين القائمة إلى اليوم في المغرب، والتي يتسنم عرشها الملك محمد السادس.

 

وسجلماسة التي ينتسب إليها وولد فيها، هي مدينة اندثرت، وبنيت بالقرب من أنقاضها مدينة الريساني في مقاطعة تافيلالت في شرقي جنوبي المغرب على الحدود مع الجزائر، وبنيت سجلماسة سنة 140، وصارت من أعظم مدن المغرب، وقاعدة الصحراء المغربية، على طرفها الجنوبي على الطريق التجاري المتجه جنوباً إلى أفريقيا السوداء، والتي كانت مناجم الذهب فيها تثري سجلماسة ثراء منقطع النظير، قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: وأكثر أقوات أهل سجلماسة من التمر، وغلتهم قليلة، ولنسائهم يدُ صِناع في غزل الصوف فهن يعملن منه كل حسن عجيب بديع من الأُزر تفوق القصب الذي بمصر، يبلغ ثمن الإزار خمسة وثلاثين ديناراً وأكثر كأرفع ما يكون من القصب الذي بمصر، ويعملون منه غِفارات، أي خرقة تتحجب بها المرأة، يبلغ ثمنها مثل ذلك ويصبغونها بأنواع الأصباغ، وبين سجلماسة ودرعة أربعة أيام، وأهل هذه المدينة من أغنى الناس وأكثرهم مالاً لأنها على طريق من يريد غانة التي هي معدن الذهب، ولأهلها جرأة على دخولها.

 

ولد مَـحْمد بن محمد الشريف ابن على بن يوسف الحسنى في سجلماسة، لأسرة ينتمي نسبها إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، والجد الأعلى للأسرة هو الحسن بن القاسم بن محمد بن عبد الله ابن أبي محمد بن عرفة الحسني العلوي، من نسل الحسن المثنى ابن الحسن السبط، المولود نحو 604 والمتوفى سنة 676، وكان من أهل العلم والصلاح من قرية تسمى قرية بني إبراهيم في ينبع النخل بالحجاز، استقدمه بعض أهل سجلماسة إليها، في عودتهم من الحج، وأكرموه وأعطوه دارا بها سنة 664 وعمره ستون سنة، وتزوج فيها، ثم توفي بعد أن أقام في سجلماسة 12 سنة.

 

وكان والد المولى محمد، واسمه محمد كذلك، يعرف بمحمد الشريف، وولد سنة 997 في سجلماسة في أيام السلطان المنصور السعدي، وكان صديقاً لأبي حسون السملالي أمير دَرْعة والسوس، فاستصرخه على أعدائه من أهل حصن تابوعصامت، واستصرخ أهل تابوعصامت أهل زاوية الدلاء، وهي إمارة كبيرة في المنطقة، فأغاث كل منهما من استصرخه والتقى العسكران معا بسجلماسة، لكنهما انفصلا على غير قتال حقنا لدماء المسلمين، وكان ذلك في سنة 1043.

 

وعمل أهل تابوعصامت على إفساد الصداقة بين المولى الشريف وبين أبي حسون، فاستمالوه وخدموه وأظهروا له النصح وصدق المحبة طمعا في استفساده على المولى الشريف، ونجحوا في ذلك فثارت بينهم العداوة وتوفرت دواعيها، وتنمرد أهل تابوعصامت من جديد فأراد ابنه المولى محمد إخضاعهم، فخرج في سنة 1045 ليلا في نحو مئتين من الخيل وكبسهم على حين غفلة وتسور عليهم حصنهم، واستمكن منهم، واستولى على ذخائرهم وشفى صدر أبيه مما كان يجده عليهم.

 

ولما وصلت أخبار الغارة إلى أبي حسون واشتد غضبه وكتب إلى عامله بسجلماسة واسمه أبو بكر يأمره أن يحتال على المولى الشريف حتى يقبض عليه ويبعث إليه به حبيسا، فامتثل أمره وتمارض ثم استدعا المولى الشريف لعيادته والتبرك به، ثم قبض عليه وبعث به إلى السوس، فاعتقله أبو حسون في قلعة هنالك إلى سنة 1047 حين افتكه ولده المولى محمد بمال جزيل، وعاد المولى الشريف إلى سجلماسة، وتنازل لابنه عن الرئاسة وانقطع للعبادة، وصارت للمولى محمد شوكة بما تجمع حوله من أهل سجلماسة وأعمالها والذين كانوا نواة جيشه في المستقبل.

 

وكان أصحاب أبي حسون قد أساؤوا السيرة بسجلماسة وضربوا على أهلها الضرائب الثقيلة على كل شيء جليل وحقير، فأبغضهم الناس وكرهوا حكمهم، فوجد المولى محمد أرضاً خصبة لما دعاهم للثورة على إمارة السملالي في سوس، فاجتمعوا عليه وثاروا على عمال السملالي وأخرجوهم بعد قتال شديد، ثم أجمع رأيهم في سنة 1050 على بيعة المولى محمد فبايعوه في حياة أبيه، ووافق على بيعته أهل الحل والعقد بسجلماسة، فاستتب أمره واستحكمت بيعته، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه.

 

وجمع المولى محمد جيشاً كبيراً قاتل به أبا حسون السملالي، ووقعت بينهما معارك عديدة، انتهت بانتصار المولى محمد وتخلي أبي حسون عن درعة وفراره إلى مسقط رأسه في السوس، وهكذا اتسع ملك الشريف محمد وزادت موارده الاقتصادية والبشرية، فقد كانت درعة، وهي بلدة من أعمال سجلماسة، تقع على نهر كبير يجري من المشرق إلى المغرب، وعليه عمارة متصلة نحو سبعة أيام، وهي مدينة عامرة آهلة بها جامع وأسواق حافلة كثيرة ومتاجر رائجة، ولها يوم الجمعة سوق في مواضع كثيرة.

 

وبعد استيلائه على إقليم سجلماسة وجنوبي المغرب وقضائه عملياً على السملالي، تطلع المولى محمد للاستيلاء على أواسط وشمال المغرب الذي كانت قاعدته فاس ومكناس، والتي كانت تحت حكم أبي عبد الله محمد الحاج الدلائي، والذي وصل سلطانه إلى سلا، ولم تكن مطامع المولى محمد في فاس ومطامحه لما وراءها خافية على الدلائي، فبادر للقضاء على هذا الخطر الوشيك، وحشد جيشه ثم سار إليه  فهاجم سجلماسة عدة مرات، ووقعت بينهما معارك عديدة كانت خاتمتها معركة حاسمة في 12 ربيع الأول سنة 1056 انهزم فيها المولى محمد، واستولى على إثرها الدلائي على سجلماسة.

 

ولم تكن الهزيمة قاصمة للمولى محمد وبقيت قواته تشكل تهديداً للدلائي وجيشه، ومن ناحية أخرى لم يكن من مصلحة الدلائي التورط في حرب طويلة الأمد في المناطق الصحراوية التي لم يعتد عليها جيشه، ولذا تمخضت الحرب عن اتفاقية للصلح اتفقا فيها على خط فاصل يحدد حدود دولتيهما، وصار للمولى محمد إقليم سجلماسة والجنوب المعروف بالصحراء، وصار الغرب لرجال زاوية الدلاء، وبقي السوس مع رجال زاوية السملالي، واستثنى الاتفاق خمسة جيوب ضمن منطقة المولى محمد بقيت وأهلها تابعة لأهل الدلاء.

 

وانسحب الجيش الدلائي بعد إبرام الصلح، ولكن المولى محمد اطلع على خيانة من زعيم أحدى المناطق التي بقيت تابعة للدلائي، ففتك به وبقومه، فلما بلغ ذلك أهل الدلاء عدوه نقضاً مشيناً للصلح، وجمعوا جموعهم وعزموا النهوض إلى سجلماسة والقضاء على المولى محمد فلا تقوم له بعدها قائمة، وكتبوا إليه يتهددونه ويصمونه بالغدر ونكث الأيمان، وأغلظوا له في الكلام، وأفحشوا عليه في الملام.

 

وهنا لا بد أن نتوقف ونتحدث قليلاً عن حالة المغرب في تلك الفترة من الدولة السعدية وظهور هذه الدويلات التي تحدثنا عنها، قال المرحوم الدكتور حسن مؤنس في أطلس التاريخ الإسلامي: نتيجة للحروب الأهلية بين خلفاء أحمد المنصور، الملقب بالذهبي، أصبح جنوب المغرب؛ مراكش والسوس وتافيلالت، خارجاً عن سلطان صاحب مراكش في فاس، وكانت الجماعات الصوفية قد قويت وتحولت إلى قوات عسكرية سياسية... ونهض شيخ صوفي بسيط أصله من ماسة وجمع جموعاً كبيرة واستولى بها على سجلماسة، وهو أبو الحسن السملالي المشهور باسم أبي حسون، أبو الحسن علي بن محمد، وأنشأ شبه إمارة صوفية ظلت حتى أزالها العلويون.

 

أما أهل زاوية الدلاء بإقليم تادلا فهم جماعة صوفية من بربر صنهاجة يسمون مجاط، كان جدهم ولياً يسمى أبا بكر ... بسطوا سلطانهم على وادي مولوية وتمكنوا من دخول فاس، وحاربهم السلطان السعدي محمد الشيخ بن زيدان، وعجز عن التغلب عليهم فاضطر إلى مسالمتهم.

 

أما أهل الأندلس في وادي أبي الرجراج، ففي سنة 1018= 1614 أصدر الملك فيليب الثالث قراراً بطرد بقايا الموريسكيين المسلمين في غرناطة، وأعقبه في سنة 1023 بقرار يقول إن كل مسلم لا يتنصر لا بد أن يغادر إسبانيا، فتفرقوا في بلاد المغرب، ونزلت جماعة منهم عند مصب نهر أبي الرقراق واستولوا على قلعة رباط الفتح، ورحب بهم السلطان مولاي زيدان، راجياً أن يجد فيهم جنداً ومجاهدين ضد النصارى، وبالفعل أنشأ أهل الأندلس هؤلاء قوية بحرية قوامها سفن حسنة التجهيز لقطع البحر على الإسبان، فكثر مالهم وازدادت قوتهم، واستقلوا عن السلطان سنة 1036 واتحدوا مع قوات العياشي، ثم اختلفوا معه وحاربوه من سنة 1047 إلى موته سنة 1051، ثم خضعوا لسلطان رجال زاوية الدلاء.

 

وختم الدكتور حسين مؤنس بقوله: وهكذا نرى أن وحدة القطر المغربي ضاعت في أواخر سلطنة السعديين، وتمهدت الظروف لقيام دولة جديدة، وكانت هذه الدولة هي دولة الأشراف العلويين.

 

نعود إلى المولى محمد وتهديد أهل الدلاء له بالحرب والاستئصال، فنقول: ولما وصلت المولى محمد رسالتهم أجاب برسالة استفزازية لم يخف فيها استخفافه بهم وطموحه لتأسيس دولة على كل أرض المغرب تشمل العرب والبربر، ومما جاء في رسالة المولى محمد: كتبناه إليكم من سجلماسة كتب الله لها من شركم أنفع التمائم، وألبسها من الظفر بكم أرفع العمائم...  ولقد حدث السادة أهل البصيرة، أن ستدور عليكم منا الدائرة المبيرة، أتطمعون في النجاة بعد ترويعكم الشرفاء والشريفات، والعابدين والعابدات، فشمروا إن شئتم عن ساعد الجد للصلح، واغتنموا السلم ما دام يساعدكم وقت النُجح، فإن الحرب نار، والتخلف عنها بعد إيقادها شنار ... وما قذفتم به أعراضنا من خسة القدر، وأننا قساة لا نصغي لقبول العذر، فأنتم تنهون عن الفحشاء، وقد ملأتم منها الأحشاء ... وأما ما احتوى عليه بساط الغرب ما بين بربر وعرب فقد طمعنا من الله كونه في القبضة، عندما تمكن إليه النهضة، إن لم أكنه بالذات والديوان، فبالأبناء والإخوان، كعوائد الدول يشيد الأخير منها ما أسسه الأُول... وحتى الآن إن رغبتم في الخير فهو مطلبي، ومغناطيس طبي، وإن عشقتم الغير، فجوابي لكم قول المتنبي:

 

ولا كتب إلا المشرفية والقنا ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم

 

ويبدو أن الأمور بقيت على حالها دون معارك تذكر إلى سنة 1060 حين وافت الفرصة المولى محمد للاستيلاء على فاس، والتي كان أهلها معروفين بالتقلب في طاعتهم لمحمد الحاج الدلائي، يتمردون تارة ويستقيمون أخرى، ووقع في تلك الفترة خلاف بين والي الدلائي على فاس وبين أهل فاس القديم تطور إلى قتال، فحاصرهم وقطع عنهم الماء، فكتب أهل فاس إلى المولى محمد يستصرخونه ويضمنون له الطاعة والنصرة، ووافقهم على ذلك عرب الغرب، فاغتنمها المولى محمد منهم وأقبل مسرعا حتى اقتحم دار الإمارة بفاس الجديد في آخر جمادى الآخرة سنة 1060، وقبض على الوالي الدلائي وسجنه، وبايعه أهل البلدين فاس القديم وفاس الجديد معا واتفقوا على نصرته والقيام بأمره، وتمت له البيعة بفاس في السابع من رجب، وظن المولى محمد أن الأمور قد استقامت له.

 

ولكن ما مضت أربعون يوماً حتى أرسل محمد الحاج جيشا كثيفا لاسترداد فاس، فبرز إليه المولى محمد وجرت في 10 شعبان مناوشات ومعارك متفرقة انهزم على إثرها المولى محمد وانكفأ راجعا إلى سجلماسة، ودخل أهل فاس الذين كانوا معه مدينتهم فأغلقوها عليهم، وحاصرهم الدلائيون وجرت خطوب هلك فيها جماعة من أعيان فاس، وبعد 6 أشهر رجع أهل فاس إلى طاعة أهل الدلاء فولى عليهم الحاج ولده أحمد، ولما استقر بفاس طالب أهلها بإخراج الجناة ورؤوس الفتنة من ضريح المولى إدريس الذي كانوا قد لجؤوا له، واستمر أحمد الدلائي أميرا على فاس إلى أن توفي في أول سنة 1064، وخلفه أخوه محمد ومات سنة 1070، فوثب على فاس الجديد أبو عبد الله الدريدي فاستولى عليه.

 

وأدرك المولى محمد أنه لن يستطيع مواجهة أهل الدلاء في معركة نظامية لتفوقهم في العدد والتنظيم، فصرف اهتمامه لبسط سلطانه في الصحراء وشرق المغرب بعيداً عن الدلائيين في غربه، فتحالف مع العرب الهلاليين واتجه شمالاً فأغار على بني يزناسن ثم اتجه إلى وجدة وكان أهلها منقسمين بين مؤيدين للعثمانيين وناقمين عليهم، فأعان الناقمين على المؤيدين، واستولى بهم على وجدة، وبدأ يتحدث عن حملة وشيكة إلى تلمسان، وعن مراسلات أهلها ودعوتهم له، ولكن المولى محمد ما لبث أن أدرك أنه أوقع نفسه في مشكلة مع العثمانيين في الجزائر والذين كانت وجدة وبنو يزناسن تابعين لهم.

 

ذلك إن  الضرر الذي ألحقه المولى محمد بالعثمانيين لم يقتصر على خسارتهم لوجدة، بل شجعت حركته كل زعيم في المنطقة على الاستقلال بمنطقته، فانعدم الأمن في المنطقة وتعطلت طرق التجارة، فاضطربت أحوال المغرب الأوسط اضطراباً شديداً، ولجأ الأهالي لعثمان باشا والي الجزائر العثماني، فأمر  بحشد قوة لتسير إلى تلمسان، ولكنها لما وصلتها وجدتها خالية من سكانها، فقد انكفأ عنها المولى محمد إلى وجدة، ثم خشي من أن تسير إليه القوة التركية، فسار منها إلى سجلماسة، بعدما شب نيران الحرب في الإيالة التركية وضرب أولها بآخرها، وجرت هذه الأحداث في سنوات 1061-1064.

 

وجمع والي الجزائر العثماني أهل ديوانه وأرباب مشورته، ودرسوا أمر المولى محمد، فرأوا أن حربه ستكون مكلفة جداً، لأنها ستكون حرباً غير نظامية في صحراء شاسعة، يحاربون فيها خصماً يغير ويختفي، فرأوا أن يبعثوا إليه برسالة مع اثنين من علماء الجزائر واثنين من كبار الترك، يطالبونه فيها بالكف عن هجماته على الولاية العثمانية، والرسالة تتراوح بين الثناء على شخص المولى محمد وبيان آثار غزوه الضارة على البلاد والعباد وتحذيره من عواقب ما فعل وتخويفه من سطوة الدولة العثمانية.

 

ونورد هنا بشيء من التصرف بعض ما ورد في الرسالة المؤرخة 15 المحرم سنة 1064:

 

فقد كاتبناكم من مغنى غنيمة المقيم والظاعن والزائر، رباط الجريد مدينة ثغر الجزائر، صان الله من البر والبحر عرضها، وأمن من زعازع العواصف والقواصف أرضها ...  وذلك أن الوهاب سبحانه منحكم هيبة وهمة في الجود والحلم والحماسة، واختار لكم عنوان عنايتها في غاب الصون سجلماسة، لكن فاتكم سر رأي التدبير، وأركبتم حزمكم جموع الجهل والتبذير، مع أن ذلك في الحقيقة دأب كل مؤسس لدولة، لا يجمعها إلا بجنايات الجولة والصولة... فشوشت علينا أخلاق أخلاط الأعراب، إلى أن تعوقوا علينا في أرفق الآراب... وطلعت علينا غرة شمسك السعيدة، فعادت كل شيعة قريبة عنا بعيدة... ولولاك ما ثار علينا أهل تلمسان، وأنكروا ما لنا عليهم من قديم الحنانة والإحسان.

 

ثم تحذره الرسالة: وقد غرتك أضغاث الأحلام، وأغواك ضباب الغيب فأصبح ظنك منه في غياهب الأظلام ... ولا تمدن باع المخاطرة إلى أوطاننا، فتخشى مخالب سطوة سلطاننا، أما الشجاعة الغريزة فقد علمنا أن لك منها بالمهيمن أوفر نصيب، وممن ضرب فيها فأصاب الغرض بسهم مصيب، لكن غاية كفاية الشجاع، إذا حمي الوطيس الدفاع، سيما في هذا الحين التي أبخستها عند الخلاص، صناعةُ البارود والرصاص، وجسَّرك علينا كونك عقابا على فرع شجر، أو يعسوب نحل احتل صدع حجر! لو رأيت ملوك آحاد أمصار البر والبحر، لعلمت أنك محجوب ومحجور في حق ذلك الحجر، وتحققت أن بين الأمراء مداراة ومراعاة، وأن أحوال الدول أيام وساعات... وما مرادنا إلا أمان العرب في المواضع، ليطيب لها جولان الانتقال في المشتاة والمرابع، ويجلب إليهم الغني والعديم، ما يحصل له فيه ربح من الكساء والحناء والأديم، فإن تعلقت همتك بالإمارة فعليك بالمدن التي حجرها عليك همج البرابر، فصار يدعى لها بها على المنابر... فناشدناك جدك من الأب والأم، وما لك فيه من أخ وخال وعم، إلا ما تجنبت ساحات تلمسان، ولا زاحمتها بجموع رماة ولا فرسان ... ليبقى بيننا وبينكم الستر المديد على الدوام، ونلغي كلام الوشاة من الأقوام...

 

ولما وصل الرسل إلى المولى محمد وقرأ الكتاب اغتاظ مما تضمنه من العتاب، وأجاب عليه بكتاب لم يجبهم فيه إلى ما أرادوا من كف الأعمال العدائية، فلما رجعوا برسالته إلى باشا الجزائر قرأها بمحضر أرباب الديوان، ثم ردهم في الفور إلى المولى محمد في مهمة أخذت طابع محاججة شرعية، والتقى العلماء بالمولى محمد، وقال له: نحن جئناك لتعمل بموجب شريعة جدك وتقف عند حدك، فما كان جدك يحارب المسلمين، ولا يأمر بنهب المستضعفين، فإن كان غرضك في الجهاد، فرابط على الكفار الذين هم معك في وسط البلاد، وإن كان غرضك في الاستيلاء على دولة آل عثمان، فابرز إليها واستعن بالرحيم الرحمن، فلا يكن عليك في ذلك ملام، وأما إيقاد نار الفتنة بين العباد، فليس من شيم أهل البيت الأمجاد، ولا يخفى عليك أن ما تفعله حرام، لا يجوز في مذهب من مذاهب المسلمين، ولا قانون من قوانين الأعجام، وهذان فقيهان من علماء الجزائر قد جاءا إليك حتى يسمعا منك ما تقوله، ويحكم الله بيننا وبينك ورسوله، فقد تعطلت تجارتنا، وأجفلت عن وطننا رعيتنا، فما جوابك عند الله في هذا الذي تفعله في بلادنا، وأنت ابن رسول الله؟ مع أنه لم يعجزنا أن نفعله نحن في بلادكم ورعيتكم، على أننا محمولون على الظلم والجور عندكم لكن تأبى ذلك همة سلطاننا، فهذا ما جئنا له، والسلام.

 

وأثرت هذه الموعظة المبطنة بالتهديد في المولى محمد، وقنع بما فتح الله عليه من سجلماسة ودرعة وأعمالهما، وكتب عهدا إلى باشا الجزائر ألا يعتدي على إيالته، ويذكر السلاوي في كتابه الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى أنه قال لهم:  والله ما أوقعنا في هذا المحذور إلا شياطين العرب، انتصروا بنا على أعدائهم، وأوقعونا في معصية الله، وأبلغناهم غرضهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإني أعاهد الله تعالى لا أعرض بعد هذا اليوم لبلادكم ولا لرعيتكم بسوء، وإني أعطيكم ذمة الله وذمة رسوله، لا قطعت وادي تافنا إلى ناحيتكم إلا فيما يرضي الله ورسوله.

 

وفي 13 رمضان سنة 1069 توفي والد مولاي محمد: محمد الشريف، وأدى وفاته إلى نشوب نزاع بينه وبين أخيه الرشيد، المولود سنة 1040 في تافيلالت، فقد كان الرشيد شجاعاً مقداماً صحب أباه في غزواته، فلما مات الأب وجددت البيعة لأخيه المولى محمد، رفض الرشيد بيعته إذ كان يرى نفسه أحق بالملك، فافترقا، وخرج الرشيد إلى الجبال متنقلاً بين أحيائها، ولجأ في فترة إلى زاوية أهل الدلاء فأقام عندهم، ثم خرج خوفاً من أن يفتكوا به، ثم ذهب إلى فاس فأكرمه رئيسها ولكنه تركها واستقر به الأمر في تازا.

 

وفي آخر سنة 1073 أغار المولى محمد على المناطق الزراعية في جنبات فاس فأفسدها وتسبب ذلك في حدوث مجاعة شديدة الوطأة أكل الناس فيها الجيف والدواب، وخلت الدور وعطلت المساجد، فاستنجد أهل فاس بأهل الدلاء، ولكن المولى محمد انسحب قبل أن يحدث قتال.

 

وفي أوائل سنة 1073 تنازل ألفونسو السادس ملك البرتغال عن ميناء طنجة المغربي للملك شارلز الثاني ملك إنجلترا وزوَّجه من أخته الأميرة كاترين، وذلك في صفقة سياسية هدفها ضمان المساعدة الإنجليزية للبرتغال في حربها ضد إسبانيا من أجل الاستقلال، وتضمنت الصفقة زواج الأميرة مقابل دوطة كبيرة، وتنازل البرتغال عن طنجة وعن بومباي في الهند، وبفضلها حققت البرتغال انتصارات متوالية على إسبانيا اضطرتها للاعتراف باستقلالها في سنة 1078.

 

وهنا نذكر أن دول الوطاسيين والسعديين في المغرب، ومن بعدها الأشراف العلويين، كانت في صراع دائم مع إسبانيا والبرتغال، وتصاعدت وتيرته منذ اضمحلال الوجود الإسلامي في الأندلس في سنة 897 وتفرق مسلمي الأندلس في المغرب وغيرها، وهو صراع ديني بين دولة إسبانيا الكاثوليكية التي تريد تعقب المسلمين والقضاء عليهم أينما كانوا، وصراع اقتصادي دار في غالبه على موانئ المغرب الواقعة على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، فقد كانت إسبانيا والبرتغال تتمتعان بتفوق كبير في الأسطول العسكري والتجاري الاستعماري واستغلتاه للسيطرة على الموانئ المغربية والاستفادة منها ووقف حملات الغزاة المسلمين على سفنها التجارية.

 

وكانت إسبانيا قد احتلت ميناء طنجة منذ أكثر من 200 سنة، ثم أعقبتها عليه البرتغال، وكانت في تلك الأيام في وضع ضعيف لدخولها في حرب مع إسبانيا من أجل الاستقلال، وشعر المسلمون بذلك وشنوا غارات ناجحة على طنجة أوقعت خسائر فادحة بحاميتها، ولعل هذا التهديد كان أحد الأسباب التي أدت لتنازل البرتغال عن طنجة، وينبغي أن نذكر أن الإنجليز خرجوا من طنجة بعد 22 عاماً في أول سنة 1095، وذلك في أيام ثالث خلفاء الدولة العلوية: المولى إسماعيل شقيق المولى محمد والمولى الرشيد، والمولود سنة 1056 والذي تولى العرش سنة 1082، وبقي سلطاناً مدة 57 سنة حتى وفاته سنة 1139.

 

وبقي المولى الرشيد ضعيفاً لا  تناصره عصبة ولا تنحاز إليه جماعة، إلى أن انتبه لوجود رجل يهودي يدعى ابن مشعل، كان رجلا صاحب أموال طائلة وذخائر نفيسة، وذا هيئة من مماليك وأتباع وخيل كهيئة الملوك، وله على المسلمين صولة واستهانة بالدين وأهله، فأعمل المولى الرشيد الحيلة فقتله، واستولى على أمواله وذخائره، وفرقها فيمن تبعه، وانضاف إليه من عرب آنكاد وغيرهم فقوي عضده وكثر جمعه.

 

ثم إن المولى الرشيد دعا لنفسه أعراب الشرق وجمع كلمتهم، ونزل وجدة، وبلغ خبر تحركه ذلك إلى أخيه المولى محمد، فتخوف لما يعلم من صرامته وشهامته، فجمع جيشه وسار لقتاله والقبض عليه، فالتقيا في سهل آنكاد بقرب وجدة في 9 محرم سنة 1075 فأصابت المولى محمد في نحره أول رصاصة انطلقت في القتال فقتلته، فانفل جمعه، واستتب الأمر لأخيه الرشيد الذي أظهر الحزن عليه وتولى تجهيزه بنفسه فحمله إلى بني يزناسن وواراه هناك.

 

وكان المولى محمد شجاعا مقداما، لا يبالي بالعظائم، ولا يخطر بباله خوف الرجال، ولا يدري ما هي النكبات والأوجال، وكان مع ذلك قويا في بدنه، أيِّدا في أعضائه وجسمه، لا يقاوم في الصراع ولا يزاول في الدفاع، حُكي أنه لما هاجم تابوعصامت جعل يده في ثقب في جدار الحصن، وصعد عليها ما لا يحصى من الناس كأنها خشبة في سلم، وكان سخيا جدا حتى أنه أجاز شاعراً مدحه بنحو من 25 رطلا من الذهب الخالص.

 

وخلف المولى محمد في سجلماسة ابنه المدعو محمد الصغير، ولكن عمه المولى الرشيد أصبح سيد الموقف، وكثرت جموعه بعد أن انضم إليه جيش أخيه، وتسمى بأمير المؤمنين، وفتح تازا، ولما امتنع عليه في سجلماسة ابن أخيه المولى محمد الصغير، حاصرها 9 أشهر حتى فر عنها محمد الصغير في آخر سنة 1075 ، فزحف بعدها إلى فاس فامتلكها سنة 1076بعد حروب، وبويع فيها كما بويع أخوه قبل 16 سنة، ثم هاجم مراكش واستولى عليها وجعلها عاصمته وأخضع بلاد السوس، فعادت على يده وحدة المغرب الأقصى، وفي مسعاه لتحرير المغرب من الوجود الأجنبي، أرسل جيشا لجهاد الإنجليز في طنجة، ولقي المولى الرشيد حتفه في سنة 1082 في حادثة حين جمح به جواد فأصابه فرع شجرة نارنج، فهشم رأسه وتوفي، وكان حازما كريما، محبا للعلماء مولعا بمجالستهم، من آثاره في مدينة فاس مدرسة الشراطين لطلبة العلم، تشتمل على 232 بيتا، والخزانة العلمية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين