بين يدي عامٍ دراسيٍّ جديد

مقدِّمة:

أقبل عامٌ دراسي جديدٌ، وفُتحت أبواب العلم والخير على مصراعيها لأبنائنا وبناتنا، فنزلوا تحت قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ)، هيئنًا لمن شملته تلك المعيّة والميزة، وهنيئًا لمن ساعد أولاده بأن ينالوا ذاك الفضل العظيم، ولنا في هذا المقام رسائل وهمسات نبثّها في يوم مباركٍ، على منبر رسول الله..

 

أمّا الرسالة الأولى، فهي للآباء:

إن تأمين الطعام والشراب وإعداد المسكن وتأمين اللباس، وتأمين الحقائب والدفاتر والقرطاسية، ليست هذه معالم التربية والعناية فحسب، بل حبيبكم المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا).

الرعاية بناءٌ عقديٌّ متينٌ، وتأسيسٌ فكريٌّ متوازنٌ، وتشكيلٌ لشخصيةٍ فاعلةٍ، وتحصينٌ نفسيٌّ ثابتٌ.

ابنتك وابنك جوهرةٌ بين يديك، فاحرص على تقديم كلِّ الدعم والرعاية حتى ينشؤوا نشأةً سليمةً متعافيةً، ناضجةً بالعلم والفهم والفكر والإدراك والمعرفة.

ما أشبه حال طفلٍ مدللٍ اليوم بحال المعتصم بالله ابن هارون الرشيد، عندما صاح قائلًا: أضرّنا حبّ هارون..

فقد رُوي أنَّ الخليفة العباسي -المعتصم بالله- لم يَدرس في الكُتّاب كأخويه الأمين والمأمون، وفي كِبره كان يلْحن في الكلام، وله لحن في الحديث، وهذا ما يُعاب على العرب عمومًا، وذوي الهيئات على وجه الخصوص، وكان يرد اللوم على أبيه هارون الرشيد؛ فيقول: "أضر بنا حبُّ هارون!".

ففي أحد الأيام سأله هارون الرشيد عن صاحبٍ له، يُرافقه إلى الكُتّاب، فقال المعتصم: مات واستراح مِن الكُتّاب! فقال هارون: وبلغ بك بُغض الكُتّاب هذا المبلغ؟! اجلس، والله يا بنيّ لا تذهب بعد اليوم إلى الكُتّاب، وأشفق عليه، ووافقه في مراده، وتركه يلعب ويلهو.. فكانت النتيجة ضَعفٌ في النطق ولحنٌ في القول.

كثيرٌ مِن المنع عطاءٌ، لكنكم تستعجلون الرّحمة بدافع المحبّة والإشفاق، فتهدمون بُنيان أطفالكم، وتنقضون غزلكم، وتُميتون زرعكم.

مِن زاويةٍ أخرى: لا تظننّ أن الرّزق بيدك، فتقول لا أملك ثمن تعليمه، بل نحن أسبابٌ لإيصال رزقهم لا أكثر، وتعليمهم ورفع الجهل عنهم واجبٌ علينا، وهو خير سلاحٍ يعينهم على وعثاء الطريق ومشقة الحياة وتحدياته، فإذا أردت أن يكون لأولادك شأنٌ؛ فلا يضرك أن تشدّ عليهم في الصِغر، أو أن تُلزمهم بما ينفعهم في الكِبر، وإن هاجت عواصف المشاعر في قلبك.

ولعله في هذا المقام تحدياتٌ أخر بخصوص العلاقة مع القرآن وحلقاته، مَن أقنعكم أن انقطاع الطلاب عن حلقات القرآن الكريم وتعلّم ما لا يسعهم جهله مِن علوم الشريعة والدِّين لمجرد بدء الدراسة فعلٌ سليمٌ! بل هو ترسيخٌ للأوهام، وخرافاتٌ أن القرآن مانعٌ مِن التفوق الدراسي.. لا والله..

علموا أولادكم أننا ما وجدنا تفوّقًا ولا توفيقًا ولا نجاحًا ولا تيسيرًا ولا شرفًا إلّا ببركة القرآن الكريم..

 

والرسالة الثانية لك أيها الفاضل القدير (المربّي):

يا مَن تركتَ بصمتك التربوية على ذاكرة الجيل وشخصيته، أنت أمام فرصةٍ عظيمةٍ لبناء أداة النهضة وأحد أهم أسس علاج المجتمعات ورقيّها، فماذا أنت فاعلٌ بهم خلال عامٍ دراسيٍّ كامل؟ استثمر الوقت والفرصة بأن تغرس القَناعات الحميدة والفكر المنهجي السليم ومكارم الأخلاق والعلم المؤصّل والقيم النبيلة، كن ذاك الرجل الذي سيُذكر في أصقاع الدنيا بعد أن ترك أثرًا وكان سببًا في نهضة أمته، وتذَكّره أطفالنا بكل خيرٍ، فهو مَن شكّل لهم بوصلتهم وكان الأساس في تفوقهم، أنت يا مَن حملت ميراث الأنبياء، هنيئًا لك وصف نبيك صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ). 

وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ).

نعم.. لسان حالك يقول: تعبت مِن شدة التضييق مِن مجتمعي وضيق الحال، 

لا أقول لك: اصبر على هذا الواقع، بل أقول: ساهم في تغييره، وكن أول مَن يؤسس لجيلٍ ومجتمعٍ فيه المعلم آخذٌ حقه ومكانته بشكل صحيح؛ لتكون المفاهيم فيه موضوعةً وفق نصاب العلم والتخصص، لا وفق المحسوبيات وشريعة الغاب! كن أول مَن يبني جيل التمكين الذي سيُحدث فرقًا في مجتمعه، ليكون أساس الإصلاح والعمران والنهضة في بلده، والدواء الشافي لأمراض أمته.

استعن بالله ولا تعجز، واحمل الهم، وساهم في إصلاح الأوضاع ضمن الوسع والمتاح، فأنت في مقام تكليفٍ، ولن تنال منه التشريف حتى تمام التكليف.

 

الرسالة الثالثة:

وختامها لكم أبنائي وبناتي زهرة الفؤاد وريحانة قلوب آبائكم وأمهاتكم: أقول لكم ما قاله لنا سلفنا الصالح: إذا أردتم الدنيا فعليكم بالعلم.. وإذا أردتم الآخرة فعليكم بالعلم.. وإذا أردتموهما معًا فعليكم بالعلم.. فالله تعالى أخبركم في محكم تنزيله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. 

فهنيئًا لمن ارتقى في رضا الرحمن وثابر وحصّل مِن العلوم أشرفها، وعلِم أنّ الدنيا لا تعمّر إلا بالعمل؛ فصابَر وصبر، وعلِم أنّ الأجر على قدر العناء والمشقّة.

والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلّك، فإن أعطيته بعضك لم يعطك شيئًا.

خلقنا الله بين عِلمين، {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4]. 

فاعلم يا بنيّ أنه مَن لم يتعلم لم يعرف معنى خلقه وسبب وجوده في هذه الدنيا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

 

رسالةٌ إلى المجتمع:

ثقافة تسمين العجول لن تحلّ المشكلة، وتأمين الطعام والغذاء وتعزيز واقع الاتكالية لأفراد مجتمعنا لا يزيد المشكلة إلا تعقيدًا، انطلقوا بالمشاريع المستدامة وتمكين الأدوات، اعتنوا بالمدارس والمحاضن التربوية، أعطوا المعلم حقّه مِن التقدير والاحترام والكفاية، فهو مَن يحمل عنكم عبئ التأهيل وهمّ التربية والبناء، فوالله لن تُبنى الأوطان إلّا ببناء الإنسان، ولن تُعالج أمراض المجتمع إلا برفع الجهل وتحصين العقول، لا معدّل الجريمة ولا نسبة تعاطي المخدرات، ولا بطالة الشباب ستنخفض، ولا حتى الانحرافات الفكرية والغلو العقدي سيموت؛ إلّا بالعلم، لن يحصل التراحم ويُعاد التناغم بين النسيج المجتمعي ويحقق التكافل الاجتماعي إلا باستشعار أهمية المحاضن التربوية، فهي خير معينٍ لإحداث حالة وعيٍ يقلّل مِن الأحقاد ويحدث حالة تناغمٍ بين الأفراد ويستثمر التنوّع في الطاقات، فتزدهر به جنبات المجتمع، وتنتقل مِن حالة العوز وطلب العون إلى طور التعافي الذاتي، فهي البركة بأهلها وأرضها، استعينوا بطاقات بعضكم لنُرجع كلّ أولادنا للمدارس، ونؤهلهم تأهيلًا أكاديميًا؛ يستشعرون مِن خلاله بمسؤوليتهم تجاه مجتمعهم ودينهم، هذا جهدنا -يا ربّ- في جيلٍ نسعى لبنائه، صالحًا في ذاته، مصلحًا لمجتمعه، خادمًا لدينه.

استعملنا -يا ربّ- في خدمة دِينك على الوجه الذي يرضيك عنّا، وارزقنا البركة والحكمة، وألهمنا رشدنا، واربط على قلوبنا في هذه الأيام الصعاب لنتجاوزها وقد حقّقنا مفهوم الاستخلاف الذي أرسلتنا لهذه الدنيا مِن أجله.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين