بين وفاء الأرملة ورغبتها بالزواج.. مفاهيم مغلوطة

بين وفاء الأرملة ورغبتها بالزواج.. مفاهيم مغلوطة

د. يحيى عثمان

 

أستاذي الفاضل، حقيقة لا أعلم من أين أبدأ؟ فأنا في خجل شديد وضيق يكاد يمزقني.

 

أمي سيدة فاضلة، تبلغ من العمر 68 عاماً، وهي أرملة منذ 3 سنوات، وقد تمتعت بحياة زوجية طيبة بلغت أكثر من أربعة عقود ونصف عقد مع زوج بشهادتها كان مثلاً لما تحلم به أي زوجة، كما كانت والدتي نعم الزوجة وقد وقفت بجانب والدي ودعمته بكل حب في أي محنة واجهته.

 

والدتي أم لأربعة أبناء وبنتين و15 حفيداً، ومنذ وفاة والدي والجميع يحيطها بكل الحب، وكثيراً ما يتنازع أبناؤها وحفدتها على من يستأثر بها في بيته، والدتي مشغولة بمتطلبات وظيفتها كأستاذة للغة العربية بإحدى الجامعات، وإشرافها على جمعية خيرية لرعاية الأيتام التي أنشأتها من نصيبها من ميراث أبي ومالها الخاص، وقد حثتنا على ذلك، كما أن لها مجتمعها الخاص، حيث أنشأت مجموعة لرعاية الأرامل من قريباتها وصديقاتها نفسياً ومادياً، وهي تقريباً التي تتولى ذلك، والدتي تتمتع بالحكمة والقبول وعادة ما يفضل أزواجنا وزوجاتنا الاستعانة بها عن والديهم عند حدوث خلاف، وكذلك كل معارفنا، ورغم كل ذلك فإنها «كانت» تعيش حالة من الحزن الدفين والانعزال النفسي، وتحاول جاهدة أن تبدو مشاركة لنا، مما أثر علينا وعلى صحتها بصفة عامة.

 

عادة ما نلتقي أسبوعياً مع بعض الأصدقاء في النادي للدردشة حول أحد الموضوعات الاجتماعية أو الدينية التي يقدمها بعض الأصدقاء، وكثيراً ما كانت والدتي تعتذر، منذ ستة أشهر وتحت إلحاحنا صاحبتنا والدتي اللقاء، كان ضيف الحلقة والد أحد الأصدقاء وهو طبيب أرمل تقاعد حديثاً لبلوغه السبعين من عمره، وهو أديب هاوٍ، وألقى علينا قصيدة من إنتاجه، وكانت محل إعجاب الجميع، أخذت الكلمة والدتي ورغم إشادتها كمتخصصة ببعض المعاني البلاغية التي لم يفهمها الحضور، فإنها اقترحت بعض تعديلات، أشاد الدكتور باقتراحات والدتي واستسمحها أن تراجع إنتاجه إذا كانت ترى أن إنتاجه يرقى لذلك، لكن بدا على والدتي الحرج وأومأت رأسها بالإيجاب.

 

فوجئت بزوجتي تبلغني أن زوجة صديقي تطلب «إيميل» والدتي ليعرض عليها والده بعض إنتاجه! صمت برهة فبادرتني زوجتي قائلة: إلى أين وصل تفكيرك؟ لعلها تنتظم معنا في لقائنا الأسبوعي وتتغلب على أحزانها، قلت لها: هيهات!

 

كنا جميعاً سعداء بانتظام والدتي على حضور اللقاء، ورويداً رويداً بدا إقبالها على الحياة، مثل التخلي عن التوشح بالسواد، عادت إليها بسمتها، لم تضحك بعد، ولكنها تبسمت -حتى إن إحدى حفيداتها كتبت على مجموعة العائلة: «تصدقون! تحققت المعجزة»، كما قلَّ اهتمام والدتي بمشاركتها في أنشطة مجموعة الأرامل، وعينت مديرة متفرغة للجمعية الخيرية التي أنشأتها! وأصبحت تتابع ذلك من خلال زيارة أسبوعية ثم أصبحت الزيارة شهرية.

 

(أمس)، اتصلت بي أختي الأصغر مني مباشرة، وطلبت مني اللقاء في النادي بعيداً عن البيت لأمر مهم وعاجل! تقابلنا وكانت المفاجأة، بل الصدمة!

- خيراً؟!

- متى تحب أن يأتوا للخطبة؟

- ضحكت، ألف مبروك، ولهذا أنت مضطربة؟ أخائفة أن تكوني جدة؟ كما تعلمين كم كانت فرحة منال -زوجتي- بحمل ابنتنا.

- خطبة ماما! نعم لقد كلمتني منى أن عمها الدكتور كان على تواصل مع أمي وعرض عليها الزواج وقد وافقت! ولم يبق إلا أن يعلنا ذلك رسمياً!

- لماذا؟!

- هذا ما قلته لنفسي، ماذا ينقصها؟ ليست في حاجة لمن ينفق عليها، أو يملأ فراغها، أو يشملها برعايته أو يعطيها من الحب والحنان والاهتمام? ظلت تتمتع بحياة زوجية كاملة من حب وتدليل حتى 65 من عمرها، وكنت أتباهى بمعاملة والدي لها أمام زوجي، لم يمرض والدي غير ثلاثة أيام فقط، ماذا أقول لزوجي؟ بعد أن كانت مثالاً لوفاء الأرملة لزوجها، حتى قال زوجي: أتمنى أن تكوني وفية لي بعد وفاتي كأمك! من عام كنا ندعو لحفلة زواج الحفيدة واليوم لزواج الجدة! واستطردت متسائلة: والحل؟

- دعيني أفكر وسأخبر.

 

أستاذي، هل يمكن أن تتزوج أمي ذات الـ68 عاماً لاحتياجها إلى... أخجل من نفسي لإكمال العبارة! وهل يعقل هذا؟! سمعنا عن شيخ متصاب، ولكن.

 

الوفاء للزوج المتوفى يمكن أن يكون بالدعاء والصدقة وذكر محاسنه وستر سيئاته وليس بالامتناع عن الزواج

 

التحليل

هناك خطآن:

 

الأول: خلط المفاهيم:

- الوفاء: إن الوفاء للزوج المتوفى يمكن أن يكون بالدعاء والصدقة وذكر محاسنه وستر سيئاته، ولا علاقة بزواج الأرمل أو الأرملة بالوفاء للزوج المتوفى.

- الاحتياجات النفسية للإنسان: إن الاحتياجات النفسية للإنسان الراشد لا يحددها له أحد، هو -وهو فقط- الذي يحدد ما يحتاجه، ومن المؤكد أن أمك راشدة.

- الخلط بين الاحتياجات العاطفية والجنسية: رغم ما تغمرون به أمك من حب وحنان، فإنها تحتاج إلى العاطفة، نعم من الطبيعي أن سيدة عمرها 68 عاماً تجد فيما يغمرها به أولادها وأحفادها عوضاً عن الاحتياج والتفاعل العاطفي مع الزوج، لكن العكس ليس خطأ.

 

إن الاحتياج للارتواء الجنسي عادة ما يتأثر بتقدم العمر، ولكن هناك عوامل أخرى أكثر تأثيراً لعلها طبيعة الإنسان، كما أن قدراتنا تختلف في التفاعل مع هذا الاحتياج؛ فمنا من يجد صعوبة في عدم الارتواء الجنسي رغم ما يشغل نفسه به، لذا فلا حرج على أمك في ذلك، إن توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم للشباب الذي لا يستطيع الزواج بالصوم، هذا حل مؤقت حتى يتمكن من القدرة على الزواج، وهذا ليس معناه أنه لن يعاني من عدم تلبية الاحتياج الفطري للزواج.

 

قد تضحي الأرملة أو المطلقة وهي في العشرينيات بعدم الزواج، وتحاول جاهدة محتسبة التغلب على احتياجاتها الجنسية من أجل تربية أطفالها، لأنها تخشى من تقصيرها في حق أولادها الصغار في حالة زواجها، أما أمك فماذا عليها من واجبات تجاهكم؟

 

الثاني: تجاوز حدود المساحة النفسية:

إن لكل إنسان مساحة نفسية، يجد فيها ذاته ويمارس فيها خصوصيته الفكرية والنفسية، وقد مَنَّ الله على الإنسان بأنه سبحانه هو فقط العليم بذات الصدور، ويعبر عنها بالخصوصية؛ لذا فمن التوجهات التربوية تنشئة الأولاد على أن يحافظوا على خصوصياتهم، وألا يتعدوا على خصوصيات الآخرين، كما أنه في المجال الإداري، حتى ينتظم العمل يحدد لكل موظف ووحدة إدارية نطاق المسؤولية حتى لا يحدث تعارض أو تتداخل بينها.

 

لكن في العلاقات الإنسانية، للأسف، قد يحدث هذا التداخل ونسمح لأنفسنا بالتعدي النفسي على الآخر خاصة من نحبهم، ونجعل من أنفسنا أوصياء عليهم، ومن ثم نقيم تصرفاتهم بناء على ما نراه نحن وليس هم! ومن الأخطاء الجسيمة في حق أولادنا اختيارنا لأصحابهم بدلاً من أن نعلمهم كيف يختار صاحبه؛ ما قد يؤدي إلى طمس شخصية الولد واعتماده علينا، أو الثورة والجنوح إلى العناد، أو إظهار الموافقة ثم يفعل ما نهيناه عنه إذا تمكن من ذلك، طبعاً في حالة الوالدين لا حرج إن وصلا إلى مرحلة عدم القدرة على إدارة حياتهما ففرضاً علينا تولي أمورهما ولكن بالقدر المناسب لقدراتهما وليس على الإطلاق.

 

إن أمك قادرة على تقدير احتياجاتها وإدارة شؤونها، ومن العقوق الحجر على تصرفاتها أو إظهار عدم الارتياح لقرار زواجها.

 

كما أن من تقدم لها مناسب سواء من حيث العلم والمكانة الاجتماعية وكذا السن، فلا حرج عليها.

 

نعم، إن التقاليد السائدة تستهجن على من في عمر أمك أن تُقْدم على الزواج! لكن دعونا ننقي بعض الموروثات مما علق بها من أفكار بالية مثل إلقاء اللوم على من يتصرف داخل نطاق حقه، واختياره الأولى له.

 

إن والدتك قد أدت حق الزوجية حتى وفاة والدك، وأدت حق الأمومة، وتقوم بواجبها العلمي تجاه مجتمعها كأستاذة، أليس من حقها أن تكمل مسيرة حياتها بمن يشاركها مشاعرها؟

 

لذا، عليك أن تجمع إخوتك وتوضح لهم ما التبس عليهم، وألا يعقوا والدتهم بسبب تقاليد ليس لها علاقة بالشرع الحنيف، ثم تهنئوها وتباركوا لها اختيارها.

 

كثيراً ما تسبب وفاة أحد الزوجين مشكلة للأولاد، بسبب انشغالاتهم أو عدم وجود مكان مناسب، لذا أرى أن زواج المسنين قد يكون وأؤكد قد –وليس دائماً– حلاً مناسباً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين