بين مالك والليث -2-

 

الإمام الليث بن سعد يُعتبر مفخرة مصر في أواخر القرن الأول للهجرة، إذ كان إماماً حجَّة ثبتاً في الفقه والحديث، كما كان من سادات أهل زمانه حفظاً وفضلاً وكرماً، كما اشتهر برفعة القدر وعلو المكانة، فقد أدرك نيفاً وخمسين رجلاً من التابعين ونهل من علمهم وفضلهم الكثير، ولم يترك وسيلة في سبيل العلم إلا أخذ بها، فقد شدَّ رحاله إلى الحجاز ليغترف من بحار علمائه، كما طوَّف بأرض العراق باحثاً ومُنقباً عن العلم والعلماء، ليضمَّ من علومهم إلى علمه الفياض، وهو لذلك كان نهماً في العلم لا يشبع، وظامئاً إلى وِرْده لا يَروى، وهو في ذلك كله يَبحث عن الكمال في العلم، والقصد إلى بلوغ الغاية في علوم الدين، فتمَّ له ما أراد إذ كان أفضلَ أهل زمانه فقهاً وحديثاً وحفظاً وفضلاً كما أسلفنا، حتى أصبح إمام مصر وفقيهها غير منازع.

مولده ونشأته:

ولد رضي الله عنه ببلدة قلقشندة (إحدى قرى مديرية القليوبية) سنة أربع وتسعين للهجرة، ثم حفظ القرآن الكريم وتفقه على شيوخ مصر وأخذ عنهم، وإليهم يرجع الفضل في تثقيفه ثم نبوغه في الفقه والحديث، فقد كان يقوم عليه علماء المدينة وعلماء الشام وهو شاب فيناظرهم جميعاً، ثم يحوز قصب السبق، مما جعلهم يَعترفون بفضله وغزارة علمه، ويدعونه إماماً إرهاصاً منهم بما سيأتي به المستقبل.

شهادة الأئمة بسعة علمه:

شهد له الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه بأنه أفقه من مالك بن أنس، كما شهد له الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بأنَّه ليس في المصريين من هو أثبت من الليث بن سعد، وأنه كثير العلم صحيح الحديث، كما شهد له يحيى بن بكير بذلك، ولكن كانت الحظوة لمالك، وهو فوق ذلك من شيوخ الإمام البخاري راوي الحديث، وأستاذه، كل ذلك يدل على سعة علمه وعظم فضله، وعلوِّ كَعْبه في علوم الدين، ومن رسالته التي سننشرها بعد تُؤخذ طريقته التي كان يُؤثرها في البحث العلمي.

مكانته عند الخلفاء والولاة:

ولسعة علمه ورجاحة عقله وبُعد نظره وسديد رأيه كان الأمراء بمصر لا يقطعون أمراً دونه، كما كان يوصي الخلفاء بالأخذ عنه ليقينهم أن ليس في زمانه أعلم منه، كما أن الحادثة التي وقعت بينه وبين أمير المؤمنين هارون الرشيد تدل على رسوخه في العلم وعلو قدره في الإفتاء: فقد جرى بين هارون الرشيد وبنت عمه زبيدة بنت جعفر كلام، فقال هارون: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم فجمع الفقهاء فاختلفوا، ثم كتب إلى البلدان فاستحضروا علماءها إليه، فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم، فاختلفوا وبقي شيخ لم يتكلم، وكان في آخر المجلس وهو الليث بن سعد، فسأله قال: إذا أخلى أمير المؤمنين مجلسَه كلمته، فصرفهم، فقال: يدنيني أمير المؤمنين فأدناه، فقال: أتكلم عليَّ الأمان؟ قال: نعم فأمر بإحضار مصحف فأُحضر، فقال: تصفَّحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن فاقرأها، ففعل فلما انتهى إلى قوله تعالى: [وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ] {الرَّحمن:46} قال أمسك يا أمير المؤمنين فأمسك، فقال: قل: إني أخاف مقام ربي، فقال ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين فهي جنتان وليست بجنة واحدة عند ذلك سُمع التصفيق والفرح من وراء الستر، فقال له الرشيد: أحسنت، وأمر له بالجوائز والخلع وأمر له بإقطاع الجيزة ولا يتصرف أحد بمصر إلا بأمره، وصرفه مُكرَّماً، وأية مكانة لإمام أعظم من هذه المكانة وأي قدر أعلى من هذا القدر وأكرم إلا أن يكون صاحبهما الإمام الليث بعلمه وفقهه وبصره النافذ لبواطن الأمور.

كرمه وسخاؤه:

ولهذه المكانة العُظمى التي بلغها في العلم أغدق عليه الخلفاء والولاة العطايا، فاكتظَّت بها داره، وامتلأت بها رحاله، حتى أصبح من ذوي الثراء الواسع والمال الوافر، فقد بلغ دخله السنوي مائة ألف دينار، إلا أنه لم يكنزها ويوصد دونها الأبواب، بل أخذ يوزعها على الفقراء والمساكين حتى لم تجب عليه الزكاة؛ لأنها لم تمض عليها سنة كاملة وهي في حوزته بل كان ينفقها في كرم واسع وسخاء منقطع النظير.

أرسل له الإمام مالك رضي الله عنه يطلب قليلاً من العصفر لصبغ ثياب تلاميذه، فأرسل إليه مقداراً من العصفر يقول الإمام في وصفه: إنَّه صبغ منه ثياب تلاميذه وثيابه وثياب جيرانه وما بقي بيع بألف دينار، كما أهدى إليه الإمام مالك طبقاً من تمر المدينة، فأعاده إليه مملوءاً بالذهب، كما كان يهب للإمام مالك كل سنة ألف دينار، وذلك سخاء دونه كل سخاء، كما كان مضرب المثل في الكرم والإحسان، حتى إنه كان ينفق على سبعين بيتاً من بيوت الأرامل، فيحيل عسرها وكآبتها يسراً وسروراً، وقد جاءته امرأة تطلب رطلاً من العسل لمرض زوجها فأمر الخادم بإعطائها قنطاراً فقال له يا إمام: إنها طلبت رطلاً، فقال: هي سألت بقدرها ونحن نعطيها بقدرنا.

كل هذا يدلنا على أنَّه كان مطبوعاً على الكرم، مجبولاً على السخاء والجود، وأنه كان يمضي في ذلك بحب خالط نفسه واستولى على قلبه ووجدانه جعله يحسن حباً في الإحسان، ماضياً في ذلك على سنة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم.

ورعه وزهده:

ومع أنَّه كان يُنافس الريح كرماً وسخاءً، كان لا يَنال من مَوائده إلا الفتات، وهذا مُنتهى الزهد، إذ لا يمتنع عن اللذائذ وأنواع الترف ثم يقدمها هدية للناس إلا من بلغ من الزهد غايته، ومن التقشف نهايته، ذلك إلى صلاحه الذي يحدثنا هو عنه حيث يقول: (والذي نفسي بيده إني لأعرف رجلاً لم يفعل محرماً قط) يعني نفسه، على أن قول الشافعي في رثائه: (لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم قبلك: العلم والعمل، والزهد والكرم) يدل على ما طبعت عليه نفسه من التفاني في الله والعزوف عن مَفَاتن الحياة.

وفاته رضي الله عنه:

عُمِّر الإمام الليث رحمه الله تعالى حياة طويلة مديدة قضاها في نشر العلم والصلاح والتقوى، فقد توفي سنة خمس وسبعين ومائة للهجرة، وعمره إحدى وثمانين سنة رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين والعلم وأهله خير الجزاء.

 

ورسالة الإمام الليث بن سعد المصري إلى الإمام مالك بن أنس المدني آية من آيات النبل، وسمو الأدب في البحث والمناظرة، على ما فيها من قَرْع الحجَّة بالحجَّة والدليل بالدليل، ولست تشعر حين تقرأ هذه الرسالة بشيء يمس الكرامة أو تلمح ما يؤذي الشعور.

قال الليث رحمه الله تعالى: (سلامٌ عليك فإني أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم وأتمَّه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه. 

وذكرت نظرك في الكتب التي بعثتُ بها إليك وإقامتك إياها وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا فجزاك الله عما قدَّمت منها خيراً، فإنها كُتب انتهت إلينا عنك فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها. 

وذكرت أنَّه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضعٌ، وأنَّه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلاً إلا لأني لم أُذاكِرك مثل هذا.

وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مُخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يَحِقُّ عليَّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتم به، وأنَّ الناس تبعٌ لأهل المدينة إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن.

وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أعد أحداً قد ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفُتيا ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له. وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه، وما علمه الله منهم وأن الناس صاروا تبعاً لهم فيه فكما ذكرت. 

وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100} فإنَّ كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه ولم يكتموهم شيئاً علموه. 

وكان في كل جند منهم طائفة يُعلِّمون لله كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، ويقومهم عليه أبوبكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم.

ولم يكن أولئك الثلاثة مُضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون لأجنادهم في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه، فلم يتركوا أمراً فسَّره القرآن أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا أعلموهموه.

فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره، فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمراً لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم.

مع أنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعده في الفتيا في أشياء كثيرة، ولولا أني قد عرفت أن قد علِمتها لكتبت بها إليك، ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف.

ثم اختلف الذين كانوا بعدهم فحضرتهم بالمدينة وغيرها ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن. 

فكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت، وسمعت قولك فيه وقول ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد وغيره كثير ممن هو أسن منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه. 

وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نَعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودَّة صادقة لإخوانه عامَّة ولنا خاصة رحمة الله عليه وغفر له وجزاه بأحسن من عمله.

كان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد -على فضل رأيه وعلمه - بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.

وقد عرفت مما عبت إنكاري إياه: أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) وقال: (يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة – خطوة -) وشرحبيل بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح رضي الله عنهم.

وكان أبو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه سنين وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط. 

ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يقضى بالمدينة به، ولم يقضِ به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم ولي عمر بن عبدالعزيز وكان كما علمت في إحياء السنن (وقطع البدع) والجدّ في إقامة الدين، والإصابة في الرأي والعلم بما مضى من أمر الناس ـ فكتب إليه زُريق بن الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين. ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر والسماء يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصر ساكناً. 

ومن ذلك أنَّ أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنَّه متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر، ولم يقضِ أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها.

ومن ذلك قولهم في الإيلاء: إنَّه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف وإن مرت الأربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبدالله بن عمر وهو الذي كان يروى عنه التوقيف بعد الأشهر ـ أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمولي إذا بلغ الأجل إلا أن يفيءَ كما أمر الله أو يعزم الطلاق، وأنتم تقولون: إن لبث بعد الأربعة الأشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف لم يكن عليه طلاق، وقد بلغنا عن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب، وأبا سلمة بن عبدالرحمن بن عوف أنهم قالوا في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقةٌ بائنة، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابن شهاب: إذا مضت الأربعة أشهر فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة. 

ومن ذلك أنَّ زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يقول: إذا مَلَّك الرجلُ امرأتَه أمرها فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً فهي تطليقة، وقضى بذلك عبدالملك بن مروان، وكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقوله. 

وقد كاد الناس يجتمعون على أنَّها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدةً أو اثنتين كانت له عليها رجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً بانت منه، ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، فيدخل بها ثم يموت أو يطلقها، إلا أن يرد عليها في مجلسه فيقول: إنما ملكتك واحدة، فيستحلف ويخلى بينه وبين امرأته. 

ومن ذلك أنَّ عبد الله بن مسعود كان يقول: أيَّما رجل تزوج أمةً ثم اشتراها زوجها فاشتراؤها إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت المرأة الحرة عبداً فاشترته فمثل ذلك. 

وقد بلغنا عنكم شيئاً من الفتيا مُستكرهاً، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني في كتابي، فتخوَّفت أن تكون استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت وفيما أوردت فيه على رأيك. 

وذلك أنَّه بلغني أنَّك أمرت زُفر بن عاصم الهلالي ـ حين أراد أن يستقي أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمت ذلك؛ لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة إلا أن الإمام إذا دنا فراغه من الخطبة (حَوَّل وجهه إلى القبلة) فدعا وحوَّل رداءه ثم نزل فصلى، وقد استسقى عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة. فاستهتر الناس كلهم فعل زُفر بن عاصم من ذلك واستنكروه. 

ومن ذلك أنَّه بلغني أنَّك تقول في الخليطين في المال: إنه لا تجب عليهما الصدقة، حتى يكون لكل واحدٍ منهما ما تجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويترادَّان بالسوية، وقد كان ذلك يُعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم وغيره، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله وغفر له وجعل الجنة مصيره.

ومن ذلك أنَّه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سلعة، فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها أنَّه يأخذ ما وجد من مَتاعه، وكان الناس على أنَّ البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئاً أو أنفق المشتري منها فليست بعينها. 

ومن ذلك أنك تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطِ الزبير بن العوام رضي الله عنه إلا لفرس واحد والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم بفرسين ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام، وأهل مصر، وأهل العراق، وأهل إفريقية، لا يتخلف فيه اثنان، فلم يكن ينبغي لك ـ وإن كنت سمعته من رجل مرضي ـ أن تخالف الأمة أجمعين. وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا. 

وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار. فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليَّ بخبرك، وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك، فإني أُسر بذلك، كتبتُ إليك ونحن صالحون مُعافون والحمد لله، نسأل أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة الله).

الحلقة السابقة هنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد الحادي والعشرون، جمادى الثانية 1369 - العدد 6).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين