بين مالك والليث-1-

 

يطيبُ لنا أن نذكِّر الناس اليوم بإمامين جليلين، هما مالك بن أنس إمام دار الهجرة، والليث بن سعد إمام مصر كنانة الله في أرضه، وقد قامَ بينهما قديماً جدل حول مَسائل دينية، وكان نقاش وحجاج أضفيا عليه ثوباً من الاحترام المتبادل رغم ما في هذا الجدال من شدَّة بلغت الذروة، ولعل في هذا ما يحمل الناس على انتهاج طريق الحكمة والسداد عند تبادل الآراء، والدفاع عن وجهات النظر المختلفة في شتى شؤون الحياة، فإنَّ ذلك أدعى إلى صَون علاقات الود، وأدنى إلى دوام المحبة، وأقرب إلى الوصول إلى الحق.

وقبل أن نسوق هذا الجدل، نحب أن نترجم لكلا الإمامين فيما يلي: 

مالك بن أنس

نسبه:

هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة أحد الأئمة الأربعة، وإليه تنسب المالكية، ويكنى بأبي عبد الله.

والأَصْبَحي بفتح الهمزة وسكون الصاد، وفتح الباء الموحدة، نسبة إلى ذي أصبح، واسمه الحارث، من أجداد مالك، وينتهي نسبه إلى يعرب بن قحطان وهي قبيلة كبيرة باليمن.

مولده ونشأته:

ولد رضي الله عنه بالمدينة سنة 93هـ، ولما شبَّ حَفِظَ القرآن، ومالت نفسه إلى طلب العلم، ويحدِّث مالك عن ذلك فيقول: قلت لأمي: أأذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم فألبستني ثياباً مشمَّرة، ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، وكانت تقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه، وكان مالك يختلف إلى ربيعة وإلى ابن هرمز يسمع منهما ويسألهما، كما أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري ونافعاً مولى ابن أبي عمر، ولقد صبر مالك على طلب العلم ولاقى في سبيل ذلك الشدائد. 

قال ابن القاسم: أفضى طلبُ العلم بمالك إلى أن نقضَ سعف بيته، فباع خشبه، ثم أقبلت عليه الدنيا بعد ذلك، وقد تمهر مالك في علوم شتى وخاصة الحديث والفقه. وقد روي أنَّه قال: كتبت بيدي مائة ألف حديث، وقال أيضاً: كنت آتى سعيد بن المسيب، وعروة والقاسم وأبا سلمة وحميداً وسالماً، فأدور عليهم أسمع من كل واحد من الخمسين حديثاً إلى المائة ثم أنصرف، وقد حفظت كله من غير أن أخلط حديث هذا بحديث هذا، قال ابن عيينة: ما رأيت أجود أخذاً للعلم من مالك، وما كان أشد انتقاءه للرجال والعلماء.

وقال أيضاً: دارت مسألة في مجلس ربيعة وتكلم فيها ربيعة، فقال مالك: ما تقول يا أبا عثمان؟ فردَّ عليه ربيعة رداً ما يسر أحداً أن يقال له، ومالك ساكت احتراماً لشيخه، ثم انصرف وجاء وقت الظهر، فصلى بالمسجد وجلس وحده بعيداً عن مجلس ربيعة، فجلس إليه قوم فحدثهم، فلما كان الغد اجتمع إليه خلق كثير، ثم صار يجلس إلى الناس يحدثهم، وهو ابن سبع عشرة سنة، وعرفت له الأمانة في النقل والرواية، وبالناس يومئذ حياة ويقظة.

قال ابن عبد الحكم: أفتى مالك مع يحيى بن سعيد وربيعة ونافع، وهم شيوخه.

وقال مصعب: كان لمالك حلقة في حياة نافع، أكبر من حلقة نافع، وكان مالك يقول: ما جلست للفتيا والتعليم حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم، وقال: لا خير فيمن يرى نفسه بحالة لا يراه الناس لها أهلاً.

علمه وصلاحه:

أسلفنا القول في شهادة بعض أكابر العلماء في ذكاء مالك ونبوغه، ومنهم شيوخه، والواقع أن مالكاً عُرف بالتبحر في العلم منذ صباه، وكان علمه مقروناً بكثير من التواضع، والصلاح والأمانة، مع إحاطة بالكتاب والسنة، والفقه وأصوله، مع صدق الرواية والتثبت فيها، وحسن التوثيق، حتى أجمع الناس عليه في عصره، واقتدى به الأكابر.

ولقد كان شيوخ أهل المدينة يقولون: ما بقي على ظهر الأرض أعلم بسنة ماضية، ولا باقية منك يا مالك، ويقول ابن مهدي: ما بقي على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك، وقال أبو داود: أصح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك عن نافع، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، ثم مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه، ثم مالك عن أبي الزناد الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولم يذكر سلسلة أخرى عن غير مالك، وقال: مراسيل مالك أصح من مراسيل سعيد بن المسيب، ومن مراسيل الحسن البصري، ومالك أصح الناس مرسلاً، وقال سفيان: إذا قال مالك بلغني، فهو إسناد قوي. 

وناظر محمد بن الحسن الشيباني الإمام الشافعي يوماً فقال: أيهما أعلم: صاحبنا، أم صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة، ومالك رضي الله عنهما، قال الشافعي: قلت على الإنصاف؟ قال: نعم، قلت: فأنشدتك بالله من أعلم بالقرآن: صاحبنا أم صاحبكم؟ قال محمد: اللهم صاحبكم، قلت: فأنشدك الله من أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي رضي الله عنه: فلم يبقَ إلا القياس والقياس لا يكون على هذه الأشياء، فسكت محمد. 

وكان مالك معروفاً بالصلاح والتقوى، يشهد الصلوات والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد فيجتمع إليه أصحابه، فيعطي كلاً مَسألته، وكان شديد التحري في حديثه وفتياه، لا يحدث إلا عن ثقة، ولا يفتي إلا عن يقين، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم، فقد كان مَهيباً نبيلاً جليلاً، لا يعتري مجلسَه شيءٌ من المراء واللغط، ولا رفع الصوت، وحسبك في مهابته وجلاله: أنَّ هارون الرشيد الخليفة العباسي، كتب إليه ليأتيه فيحدثه، فقال مالك: العلم يؤتى!

فقصد الرشيد إلى منزله فجلس واستند إلى الجدار، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، إنَّ من إجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلال العلم، فجلس بين يديه مُستوياً، فحدَّثه. 

وعُرِفَ عن مالك أنَّه إذا أراد أن يحدث توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في جلسته، فسئل عن ذلك، فقال: أحبُّ أن أعظِّم حديث، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يركب في المدينة، حتى مع تقدُّم سنِّه وضعفه، ويقول: لا أركب في مدينة دُفنت فيها جثَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان مالك لا يقول إلا ما يعتقد: سئل يوماً عن يمين المكره، فقال: لا تلزم.

فوشي به إلى جعفر بن سليمان والي المدينة عم المنصور العباسي، وقالوا: إن مالكاً لا يرى أيمان بيعتكم لازمة، فاستدعاه وجرَّده وضربه سبعين سوطاً انخلعت فيها كتفه، وكأنما كانت هذه السياط تيجان مجد، وأوسمة شرف، فقد علت منزلته في نفوس الناس، وازداد قدره.

تلاميذه:

تتلمذ لمالك جمهرة من أكابر العلماء، وما عرف عن عالم تتلمذ له كثير من شيوخه وأكابر أقرانه سوى مالك، وقد عدَّ القاضي عياض من تتلمذوا عله من هؤلاء وهؤلاء فنيفوا على الألف من مَشَاهير العلماء سوى من لم يشتهر، أو لم يعرف.

فمن شيوخه الذين رَوَوا عنه: محمد بن مسلم الزهري، وقد مات قبل موت مالك بخمس وخمسين سنة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وقد توفي قبل مالك بثلاث وأربعين سنة، وموسى بن عقبة وهشام بن عروة، ونافع بن أبي نعيم الأنصاري، ومحمد بن عجلان، وسالم بن أبي أمية، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وعبد الملك بن جريح، ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي، وسليمان بن مهران الأعمش.

ومن أقرانه: سفيان بن سعيد الثوري، والليث بن سعد المصري، والأوزاعي، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وحماد بن سلمة، وأبو حنيفة وابنه حماد، وأبو يوسف القاضي، وشريك بن عبد الله القاضي، والإمام الشافعي، وبعدهم عبد الله بن المبارك، ومحمد بن الحسن، وموسى بن طارق القاضي، والوليد بن سليم، ومن أصحابه عبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وأشهب بن عبد العزيز، وزياد بن عبد الرحمن القرطبي، ويحيى بن كثير الليثي، وأبو الحسن علي بن زياد التونسي، وأسد بن الفرات، وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون.

مؤلفاته:

أشهر مؤلفات مالك: الموطأ وسبب تأليفه أنَّ أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتاباً أحملهم عليه، وجَنِّبْه شدائد عبدالله بن عمر، ورُخَص عبد الله بن عباس، وشواذَّ عبد بن مسعود، فقال مالك: إنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرَّقوا في البلاد، فأفتى كل في مصره بما رأى. 

ويروى: أنَّ الذي كلَّمه في ذلك هو المهدي، وأنَّ مالك أبى أن يحمل الناس على مذهبه، ثم وضع الموطأ، قال أبو زرعة: لو حلف رجل بالطلاق على أحاديث مالك التي في الموطأ أنها كلها صحاح لم يحنث.

ولمالك مُؤلفات جليلة، مروية عنه أكثرها بأسانيد صحيحة غير الموطأ، من أشهرها رسالة في القدر، والرد على القدرية، وهي تدلُّ على سعة علمه، ومنها كتاب في النحو، وحساب مدار الزمان، ومنها رسالته في الأقضية في عشرة أجزاء، ورسالته إلى أبي غسان محمد بن المطرف في الفتوى، وكتابه المشهور إلى هارون الرشيد في الآداب والمواعظ، وكتابه في تفسير القرآن، ورسالته إلى الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة وغيرها.

أدلته الاجتهاديَّة:

يستند مالك في مذهبه على الكتاب والسنة والإجماع، والقياس إذا لم يكن هناك نص من كتاب أو سنة، ويعطي عمل أهل المدينة أهمية كبرى، لاسيما أئمتهم، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر، وقد يردُّ الحديث؛ لأنَّه لم يجرِ عليه العمل، ويقول: إنَّ عدم عمل أهل المدينة به دليل على أنَّ هناك ما ينسخه، ونازعه في ذلك كثير من فقهاء الأمصار، ومنهم الليث بن سعد المصري. 

ويقول مالك بالمصالح المرسلة، وهي أمورٌ لم يشهد لها من الشرع دليل ببطلان، أو باعتبار، وذلك كضرب المتهم بالسرقة للاستنطاق، أجازه مالك؛ لأنَّ مصلحة المسروق منه تقتضيه، ومنها طلاق المفقود زوجها إذا تضررت بالعزوبة، وانتظرت أربع سنين بعد انقطاع خبره، يطلقها الحاكم عند مالك ثم تتزوج، أخذ في ذلك برأي عمر، ومن ذلك عدة المطلقة ونفقتها تدعي عدم الحيض، قال مالك: تعتد ثلاثة أشهر، ثم تنتظر تسعة أشهر مدة الحمل فالمجموع سنة، ولا نفقة لها أكثر من ذلك، وله غير ذلك.

وفاته: 

توفي رحمه الله تعالى الله، سنة 179هـ، بالمدينة المنورة، وصلى عليه عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عباس، وكان والياً بعد أبيه على المدينة، ومشى في جنازته وحمل نعشه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد الحادي والعشرون، ربيع الثاني 1369 - العدد 4).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين