أسئلة بيانية (9) بين قوله: {هدى الله} وقوله: {هداهم الله}

قال تعالى في سورة البقرة: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: 143].

وقال في سورة الأنعام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 89-90].

وقال في سورة الزمر: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 17-18].

سؤال:

لماذا قال في آية البقرة: ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه﴾، فحذف العائد على (الذين) من الفعل (هدى).

وكذلك في آية الأنعام فقد قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾، ولم يقل: (هداهم الله).

في حين قال في آية الزمر: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ فذكر العائد وهو الضمير (هم) المتصل بالفعل (هدى)؟

الجواب:

إن هذا النوع من الحذف إنما هو من الحذف الكثير في اللغة، والفرق بين الذكر والحذف أن الذكر يفيد التوكيد كما هو معلوم، ومعنى ذلك أن قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ آكد من قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ لأنه صرح بذكر الضمير.

أما الفرق بين آية سورة البقرة، وآية الزمر فإن آية الزمر تقتضي التوكيد أكثر من آية سورة البقرة، وذلك أن آية سورة البقرة إنما هي في تحويل القبلة.

وأما آية الزمر فإنها فيمن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهؤلاء على درجة كبيرة من الهدى فإنهم لا يكتفون باتِّباع الحسن، وإنما يتَّبعون الأحسن، ثم إنه جاء معهم بالفاء فقال: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ ولم يأتِ بـ (ثم)، والفاء تدل على الترتيب والتعقيب فإنهم بمجرد سماع القول يتَّبعون الأحسن.

وقال: (يتَّبعون) مضارع (اتّبع) بتضعيف التاء وهو على وزن (افتعل) الدالّ على المبالغة في الاتباع، ولم يقل (يتْبعون) بالتخفيف، وهذه مرتبة عظيمة أعلى من مجرد اتباع القبلة لأن اتباع القبلة إنما هو من استماع القول واتباعه فهو واحد من الأمور المطلوبة.

فهداية المذكورين في الزمر أعلى وآكد؛ لأنها تشمل ما ذكره في آية سورة البقرة وغيره مما يريده الله تعالى. ولذا كان التوكيد في الزمر هو المناسب.

وأما آية سورة الأنعام، فهي في جمع من رسل الله وأنبيائه وفيهم أولو العزم، ولا شك أن هؤلاء أعلى من المذكورين في آية سورة الزمر.

قد تقول: ولماذا إذن لم يذكر الضمير مع فعل الهداية مع أنهم أولى بالتوكيد من غيرهم؟

والجواب: إن ربنا جلَّ وعلا ذكر كلَّ أحوال الهداية مع هؤلاء الذين ذكرهم في سياق آية سورة الأنعام، واستعمل كل أنواع التعدية لفعل الهداية.

فقد عدَّى الفعل إلى المفعول مباشرة بأسمائهم الظاهرة فقال: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ﴾ [الأنعام: 84]. الخ.

فعطف هؤلاء الأنبياء والرسل على نوح الذي هو مفعول (هدينا) أي: ومن ذريته هدينا سليمان وأيوب ويوسف... الخ.

ثم عدى الفعل إلى ضميرهم أيضاً فقال: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 87] فقال: ﴿َهَدَيْنَاهُمْ﴾ فعدّى الفعل إلى ضميرهم كما قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ وزاد على ذلك الاجتباء.

ولم يكتفِ بذاك بل قال أيضاً: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾، فحذف مفعول (هدى) وهو الضمير العائد على الرسل فجعل الكلام على صورة المطلق فأطلق المعنى، إذ يحتمل هذا التعبير معنيين:

الأول: أولئك الذين هداهم الله وهو الأظهر.

والثاني: أولئك الذين هدى الله بهم.

فصار المعنى: أولئك الذين هداهم الله وهدى بهم، ولو ذكر الضمير لدل على معنى واحد، فاتسع المعنى بالحذف. ولا شك أن هذا المعنى أوسع من ذكر الضمير وأمدح لهم.

فزاد على ما ذكره في الزمر بالتعدية إلى المفعول المباشر وهو الاسم الظاهر، وبالحذف للدلالة على الإطلاق واتساع المعنى. ثم إنه ذكر من الهداية ما لم يذكره في الآيتين.

فقد ذكر الهداية العامَّة، وهو قوله: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ...﴾ الخ، ولم يخصص الهداية بأمر معيَّن.

ثم ذكر أنه هداهم إلى صراط مستقيم؛ فقال: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وهذه هداية أخرى.

ثم أفاد بالحذف أنه هداهم وهدى بهم.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه أسند فعل الهداية مع رسل الله تعالى مرة إلى ضمير التعظيم، فقال: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ...﴾ الخ، وقال: ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

وأسنده مرة أخرى إلى اسمه الجليل وهو اسمه العَلَم فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه﴾.

في حين أسنده في الآيتين الأخريين إلى اسمه العلم، فزاد الإسناد مع الرسل على ما في الآيتين الأخريين.

هذا علاوة على ما ذكره من التعظيم لأنبيائه ما لم يذكره مع الآخرين من نحو قوله: ﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 86].

وقوله: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 87]، فزاد الاجتباء على الهداية.

وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ [الأنعام: 89].

وقوله: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، فناسب كل تعبير موضعه.

وقد تقول: ألا يحتمل الحذف في آية سورة البقرة وهي قوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: 143] ما ذكرته في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ فيكون المعنى: إلا على الذين هداهم الله وهدى بهم، فيتّسع المعنى، فيكون مَن ذكرهم في سورة البقرة أعلى ممن ذكرهم في الزمر نظير ما ذكرته في آية الأنعام؟

والجواب: إن السياق يأبى ذلك، فإن هذه الآية في تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس، ويكفي في ذلك أن يتجه المسلم إلى الكعبة في صلاته، وأن يهديه الله تعالى للرضا بذلك سواء كان يهدي الآخرين أم لا، وسواء كان عالماً أم لا.

فمن رضي بذلك واتجه إلى القبلة، شملته الآية، أيَّاً كان فلا يصح تقدير ما ذكرت.

وقد تقول: ولِمَ لَم يحذف الضمير في آية سورة الزمر فيقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ ليشمل الذين هداهم الله وهدى بهم، فيكون أمدح لهؤلاء كما فعل في آية الأنعام؟

والجواب: إن ذكر الضمير ههنا من رحمة الله بنا، ولو حذفه لكانت البشرى لا تنال إلا مَن هداه الله وهدى به، فيكون ممن جمع بين الأمرين، ولا تَنال من هداه الله ولم يَهدِ به، فذكر الضمير أفاد نصاً أن البشرى تنال مَن هداه الله، وأن ذلك كافٍ لأن تناله بشرى ربنا سبحانه. وهذا من رحمته سبحانه بعباده، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين