بين عمارة الحس والروح

الأستاذ. البهي الخولي

يقول الله تعالى.[وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{الذاريات:20 -21}.تحقيقاً لما في هذا التفكر من تمام الخير الحسي والروحي  فهل تفكرنا؟
1 ـ بين مواهب الإنسان ومواهب الأرض:
الشأن في خيرات الأرض ليس مقصوراً على الطعام والشراب، أي ليس مقصوراً على المواد التي تتعلق بها مباشرة حياة الإنسانبل فيها  مواد لا تتعلق بطعام ولا بشراب، ويمكن أن تقوم حياة الإنسان بدونها كالحديد والنحاس والرصاص
ونلاحظ إلى ذلك أن الله تعالى إذ أودع الأرض أنواع المعادن، أودعها أسرارا من القوى وعجائب من القوانين الطبيعية.
وفي مقابل ذلك نلاحظ أن الإنسان إذ ركب فيه الاضطرار القهري إلى ما يؤكل ويشرب، ركب في ضميره سر الطموح الذي يستشرف دائماً إلى المجهول، وإلى التحسين، وإلى تهذيب الواقع، وإلى ما هو أفضل فإذا به يجد رضا طموحه في تناول المواد التي يمكن أن تقوم حياة البدن بدونها، ليسوي منها أو يصنع ما يريد.
ونجد سراً آخر أن الله سبحانه إذ أودع ضمير الإنسان ذلك الطموح، بثَّ في ذهنه مرونة عجيبة من المواهب والملكات هي بلا نزاع بل هي بحكم الواقع مفتاح ما أودع الله الطبيعة من القوى والنواميس.
فثمة توافق عجيب بين مواهب الأرض ومواهب الإنسان. توافق بين خيرات الطعام والشراب، وما ركب فيه من اضطرار حيوي إليها وتوافق بين ما أودعت من ثروات المعادن، وما أودع هو من الطموح الذي لا يقف عند حد  وتوافق بين ما بثَّ فيها من قوى وقوانين. وما بث فيه من مواهب هي مفاتيح تلك القوى.
ونعني بالتوافق توافق الالتئام الطبيعي بين السالب والموجب على تحقيق المصلحةفالسالب وحده قوة معطلة، والموجب وحده قوة معطلة ولكن هذا خلق لذاك، فإذا التأما تحقق بالتئامهما كل ما أريد بهما من خير، و الأرض بمواهبها، و الإنسان بمواهبه طرفان يمثل أحدهما الموجب، و يمثل الآخر السالب، فإذا لم يتفاعل الإنسان بمواهبه مع مواهب الأرض، وينفذ بأسراره إلى أسرارها ظل كلٌّ منهما مغلقاً معطل الخير وليس ذلك من إرادة الله في شيء، فعمارة الأرض واجبة بمثل قوله تعالى.[ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا{هود:61}.
وإنما تكون العمارة بانبعاث الإنسان بحسه وفكرة لإثارة ما فيها من خير.
ونستطيع أن ندير على هذا المعنى ما ورد من  نصوص كريمة في الحثِّ على العمل حساً ومعنى، ولكن هذا يدخل بنا إلى تفصيل معاني النصوص فنبعد عن نهج الاستبصار الذي يلحظ ما بين آيات الأرض، وآيات النفس من توافق، ودلالة ذلك على الله، وهو منتهى العلم وغاية الغايات في الخير... فإنَّ من البديهي أن ما عرضناه من توافق بين مواهب الأرض ومواهب الإنسان، ليس رمية من غير رام، ولا هو من فعل المصادفة العشواء، أي ليس عملاً مرسلاً جزافاً إلى غير هدف،كلا فهو التقدير الإلهي والحكمة التي جعلت في الأرض خيرها وكنوزها وقوانينها... وجعلت مفاتيح هذه الكنوز فيما أوتي البشر من أسرار المدارك والطموح والضرورة... فإذا قام ذلك لنا برهاناً ناصعاً على وجود الصانع ـ جل شأنه ـ فهو يفتح لنا سفراً من حكمته سبحانه.[وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى{الأعلى:3}.:[ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى{طه:50}. [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ{القمر:49}. فنبلغ بذلك السفر أسمى مستويات العبادة وتسعد أرواحنا وضمائرنا بأقدس حظوظ النور والحياة... إذ تنشط الملكات الروحية للتأمل في شأن الله واستجلاء عبر قدرته وعلمه وحكمته وما شاء الله من نور صفاته التي هي معدن العلم القدسي، وحقيقة ما للوجود من جمال وجلال، وما للنفوس من حياة وقوة وهدى.
2 ـ عمارة للأرض ورسالة للإنسان:
وأدنى ما نفهمه من ذلك التوافق المحكم بين قوانين تفكير الإنسان، وقوانين طبيعة الأرض، هو أن الله إذا آثر الإنسان بتلك المواهب ألقى إليه بعبء عمارة الأرض، فما برحت المواهب مناط التكليف، ولا تكليف لمن لا مواهب له، و.[ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ].فكل إنسان ـ مسلماً كان أم غير مسلم ـ إذا تأمل في علاقته بالأرض على ضوء مواهبها ومواهبه ألفى بصيرته تقرأ تكليفاً إلهياً بعمارتها...فلو أراد سبحانه غير هذه العمارة لما توسع في خيرات الأرض بأكثر من جعلها منبتاً لأنواع الكلأ، ولما توسع في مواهب الإنسان بأكثر من جعله حيواناً يسعى إلى ذلك العشب... و لو جاءت الأرض على ما هي عليه الآن من تنوع الكنوز وعجائب القوانين دون أن يكون للإنسان ما يتفاعل به معها من الملكات، لكان أمراً داعياً للدهشة ولبدا كأنه خال من الحكمة، أو كأن الأرض خلقت لسيد آخر غير الإنسان، سيد لم يأت أوانه بعد... ولو جاء الإنسان على ما هو عليه الآن من قوة الذهن وعجائب المواهب،وجاءت الأرض مصمتة عقيماً لا مجال فيها لطاقات ذلك الذهن لكان في ذلك ما في الغرض السابق من الحيرة الداعية للعجب، بل الداعية للشك في حكمة الخالق جل شأنه... وإذ جاءت الأرض على ما هي عليه، وسوى الإنسان على المثال الفكري، والنفسي والبدني الذي تؤدي به عمارتها، فلا معنى لذلك إلا أنه تهيئة لمقصد إلهي، وأمر كوني للإنسان يحمل إليه تكليفاً بعمارتها...
وإنا لنرى في القرآن الكريم ما يترجم هذا الأمر الكوني إلى أمر شرعي في شأن تلك العمارة في مثل قوله تعالى.[ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] {هود:61}. قال الجصاص في أحكام القرآن مفسراً لتلك الآية. (أي. أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض بالزراعة، والغرس والأبنية).
على أن العمارة لا تقتصر على ما ذكره الجصاص فإن في الأرض من وجوه المنافع وأسبابها ما ذكرنا وما لم نذكر، وكلها داعية إلى العمارة والتوسع في المنفعة باستحداث المصنوعات المختلفة والمرافق الضرورية، والوسائل الميسرة للمصالح، وما يتبع ذلك من تبادل السلع والغلات، ونقل المتاجر أو جلبها، وتداولها بين شتى الجهات، وإنا لنقرأ في ذلك قول الحق سبحانه.[ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ{الحديد:25}.  ففيه إشارة إلى مزايا الحديد توجه الهمَّة إلى استخراجه، والله تعالى يعلم من عباده حرصهم على ما ينفعهم فوجههم إلى مزية النفع في الحديد بقوله.[ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ{الحديد:25}. لينشطوا إلى استخراجه ويتنافسوا في صناعته فيحصل العمران الذي أراده، وأمرهم به.
على أن ذكر الحديد ليس إلا مثالاً للمعادن الأخرى وسائر ما تقوم به الصناعة، إذ فيها من المنافع مالا غنى للناس عنه، وما لابد للعمارة منه ،وقد أشار سبحانه إلى شيء من ذلك فيما كان لملك سليمان عليه السلام بقوله.[وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ ـ النحاس المذاب ـ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ{سبأ:12 - 13}.
فعمارة الأرض على هذا المعنى الحضاري الواسع سنَّة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وفريضة الإسلام وتكليف ألقاه الله تعالى للناس كافة.
وليس الذي يعنينا في هذا المقام هو التدليل على أن الإسلام دين حضاري على أوسع وأعدل ما تعنيه الكلمة، بل هو التفكر في مواهب الأرض ومواهب الإنسان تحصيلاً للعبرة من قوله تعالى:[وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{الذاريات:20 - 21}. فإن وراء العمران وانتفاع الإنسان بألوان الصناعة مثلاً أعلى وقيمة رفيعة لا قيمة للعمران إذ لم يحققها، بل إن العمران لم يكن من مقاصد الله إلا لأنه وسيلة إلى تحقيقها، فإذا لم يثمرها فهو عقيم لا بركة له، وذلك قوله تعالى.[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ]{الحديد:25}.قال الإمام ابن تيمية في السياسة الشرعية: (فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط ـ أي. العدل ـ في حقوق الله تعالى وحقوق خلقه، فمن عدل عن الكتاب قُوِّم بالحديد، أي. أن العدل في إقامة حقوق الله ورعاية حقوق الناس هو الثمرة العليا التي يجب أن يثمرها العمران ولاسيما ذلك الذي يعتمد الحديد ـ وسائر المعادن ـ أساساً له).
ومما يجلو قول ابن تيمية ويفصله أننا نلاحظ في عصرنا ذاك أن أقوى الطوائف وعياً للعدالة، وأشدها غضباً، ومطالبة، و ثورة للحقوق المهدرة هم أولئك الذين يعملون في العمران الصناعي... وأن القوات المسلحة بالحديد في أي شعب مستعمر أو مستضعف هي وسيلة لتحريره ورد ما فقد من حريته وحقوقه في العدالة الاجتماعية... ولأمر ما كان الاستعمار يلجأ في التمكين لنفسه ـ أول ما يلجأ ـ إلى مقاومة الصناعة وإضعاف القوات المسلحة... وعبرتنا من هذا التفكر أن القيم العليا الممثلة في العدل في حقوق الله وحقوق خلقه هي الغاية التي أريد العمران لإقرارها ورعايتها، ومن أجلها
 وهب الإنسان والأرض ما وُهبا من مختلف المدارك والثروات، فإذا انقلبت المدارك والثروات حجاباً دونها ووسيلة لإدراك لذات الجوارح وشهوات النفس فقد انقلب الإنسان عما هيء له وخلق من أجله وبه عموم الفتنة والفساد.
من جهل الحس إلى عبادة الله.
وإذا كان التوافق بين المواهب المنبثة في الأرض وفي نفس الإنسان قدراً يحمل التكليف بعمارة الأرض، فإن تنوع هذا التوافق آية بل آيات داعية للتأمل والعبرة... فقد قدمنا أن ثمت توافقاً بين ما في الأرض من مواد الطعام والشراب، وما ركب في الإنسان من اضطرار حيوي إليها... وتوافقاً بين ما أودعت من ثروات المعادن، وما أودع هو من سر الطموح ونشوء الاحتياجات المتجددة في صدره تبعاً لما يكشف حوله من صخر ومعدن ونحوهما.
ومما لا شك فيه أن التوافق الأول هو أول ما ربط الإنسان بالأرض حين كان بدائياً ساذجاً قليل التجربة والطموح لا يربطه بها إلا معدته... ونرى في التوافق الثاني عجائب من أسرار النفس والذهن، إذا رأيناها قائمة بتطويره وإخراجه من بدائيته، فإنها في ذاتها قدر يشده من تلك البدائية ليحقق الحكمة من وجوده بعبادة الله عزَّ وجل... فهذا البدائي الذي يشارك الحيوان حياة الجهل والتوحش، والفردية، قد أريد له قدر يرسم له وجهة غير التي أريدت لسائر ما حوله من حيوان...
فجهز بمواهب وأسرار تهيئِّه لها وتعينه عليها، فما عسى أن يكون لك القدر وتلك الوجهة؟...
إن أقل الناس إنصافاً لا يستطيع أن يجد تعليلاً أو تفسيراً حكيماً لما حبى الإنسان من مواهب إلا إذا نظر فيها  مقصد عبادة الله تعالى.
فعبادة الله لا تتسنّى لكائن يجهل نفسه وما حوله... وإذاً، فليمنح ذلك الإنسان سر المرونة في اداركه وبذرة الذكاء في مواهبه لتمحو آية الجهل من ذهنه... وليستبدل بالنظر الساذج إلى الحياة نظرة عميقة مدركة تقبس من حقائقها نور العبادة وصدق المعرفة... ولكن السر كامن في الذهن كمون النار في الزند... ولن يستثار ما فيه إلا إذا قدح بما يثيره!.
وإذاً فليركب فيه سر الطموح... وليخلق ضعيفاً بلا مخلب، ولا ناب، ولا قرن، ولا ريش ولا صوف، ولا جلد سميك، ليكون دائم الإحساس باحتياجات إلى غير الطعام والشراب.
ولتكن فطرة الاحتياج متجددة المرونة إلى غير حد بحيث ينشأ له مطلب كلما أثيرت إليه نفسه بمثير ما... ولتجهز الأرض في مقابل ذلك بما يثيره إلى طلب العوض عن الناب والمخلب والريش والجلد السميك... بل لتجهز بكل ما يكفي لمواجهة فطرة الاحتياج المتجددة بما يثير أشواقها، ويحرك حوافز الطلب فيها إلى ما لا ينتهي... فكان انبعاثه إلى تلك المواد هو الحركة التي قدحت بها النار الكامنة في الزند... فتوالت التجارب، وظهر تأنق الذكاء فيما أبدع وصنع... وبلغ ما بلغ الآن...
فذلك كله تدبير عميق إذا دل على وجود الخالق المريد سبحانه، فشاهدنا فيه أنه لا ينتظم في الذهن إلا على تفسير العبادة، فإذا ذهبت تقيمه على تفسير آخر تخلف عنك  المنطق وأعياك الطلب... وليس أبعد في الضلال وجحود الحقائق من أن ينسب ذلك إلى فعل المصادفة المحضة، أو أنه من فعل فاعل غير مريد... تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً...
والعبادة اتجاه فكري وجداني تام إلى غاية روحية محضة، هي تقديس الله ـ جل جلاله ـ في كل قول وعمل، وإحلال قيم الحياة كلها في عصمة هذا التقديس وولايته... ولكن ذلك معارض بانكباب الإنسان على المادة المحضة بدافع فرديته أو أنانيته الممتدة على طول الأفق، فلا ترى إلى جانبها مجالاً لسواها، ولا ترى في سواها إلا غريماً يغالبها على أسباب الحياة... ولن تتحقق العبادة مع هذا التعارض. ولن تدخل في ولايتها أي قيمة حسية بأي حال من الأحوال.
وإذاً لابد من تهذيب تلك الأنانية... لابدَّ من تقصير خطوطها الممتدة على طول الأفق، وما  أحكم أن يقدر عليه ـ من أجل ذلك ـ الاحتياج قهراً إلى أولئك الغرماء، فتضطره الحاجة إلى الانكسار إليهم وطلب ما لديهم...
وليس أنجع في ذلك من أن تنفتح عليه فطرة الضعف والاضطرار بما لا طاقة له به، ولا نهاية له من مطالب الدفاع وضرورات العيش والوقاية... وذلك ـ على ما  أسلفنا ـ قد أمدت به فطرته ليبعث مضمرات الذهن إلى طور الإيجاب والتفاعل، وهو حاضر هنا ليجعل مطالبه وضروراته كل آن أكثر من طاقته... فيضطر العجز كلا منهم إلى أن ينشد المعونة لدى أخيه في تعاون على الدفاع. وتخصص تتوزع به المطالب على مختلف الأفراد، فيكون على كل منهم سهم في خدمة الجماعة، ويكون له من مجموع السهام نصاب يفي بجميع مطالبه... وإقرار الفرد بما عليه من سهم للآخرين... هو عين اعترافه أو تسليمه بوجوب ما لهم إلى جانبه من مجالات.
وإذاً فقد انحسر مد الأنانية عن نهاية الأفق وتراجع إلى الوراء، وانكسرت فيه حدة السعار المادي الذي يعارض اتجاه الفكر والوجدان إلى عبادة الله عزَّ وجل، وهذا القدر هو ما جاء تقريره في قوله تعالى.[ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ{الزُّخرف:32}. فإذا كان التواصل على المنفعة، هو أساس ترابط المجتمعات فإنما أريدت المجتمعات لغاية أقدس أشار إليها ختام الآية بقوله. [وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
قصور الإنسانية:
ولكن هل وعت الإنسانية تلك الحقائق، وحيت فيما كتب لها من مواهب وأقدار؟ هل أدركت معنى وجودها، وشرف غايتها،وفضل ما حببت به من أسباب التمييز والكرامة؟
هل تخلصت من عقابيل الأنانية، أو ما يزال الوحش الرابض في دمائها يشدها إلى بدائيته؟
إن ما قدمنا يلخص شأن الإنسانية في أنها تحمل في ضميرها بذور تطور تشدها من نقطة بداءتها إلى علم منصوب لها في نهاية الطريق تبلغ به غاية كمالها، وازدهار الخصائص التي أهلت بها لعبادة الله، فهي في رحلة أزلية، قد تستجيب فيها لمواريث البداوة فترتد إلى نقطة البدء... وقد تمضى على بصائرها التي لا ترى في الكون غير قيم الحق، وشرف مقام الإنسان من الله، فتمضي إلى كمال وخير.
وإذ كان ذلك شأنها فإن رقيها إنما يقاس بمدى ما قطعته من مراحل الطريق، أي. بمدى ما يبدو على تصرف الإنسان من سمات، فإن كانت سمات الأنانية والرضوخ لمطالب الحيوان فهي ما تزال قريباً من نقطة البداوة، ولو كانت مقيمة بين معالم الحضارات الباذخة... وإن كانت السمات تنم عن شغف الأنانية وإيثار زاد الروح على قيم الحس، فهي أقرب إلى الغاية المنشودة.
والذي نلاحظه أن الإنسان إذا انطلق في طموحه يطور ويحسن ويبعث طاقات الذهن للاستكشاف والابتكار، إنما مضى في التقدم الحسي وحده، وأدركته آفات عوقت خطاه، أو بطّأت به في طريق التقدم النفسي نحو الكمال الذي ذكرنا... فغرائزه وحدها ما زالت تحكم كيانه، وتسخر مواهبه في مرادها على ما نالت من ثقافة وخبرة.
فغريزة التملك ـ مثلاً ـ إذ اضطرت إلى تقصير خطوطها، وقفت خلف الطموح على تربص وارتقاب، لا تريد أن تقف عند حد فيما تملك أو تحوز، ولا تتلبث إلا ريثما تجد الفرص أو الحيل لتبرير ما تريد... ولا يعنينا أن نشير إلى أن تسابق الأطماع نحو  العرض الدنيوي المحدود يفضي إلى التصادم والتصارع حتماً، ولا إلى ما ينشأ عن ذلك من كوارث بين الأفراد والأمم، فإننا بصدد تبين ما في ذلك من شارات تغليب قيم الحس على القيم الروحية.
وفي الإنسان غريزة السيطرة لا تجد في علم ولا موهبة ما يكفّها، عن أن تستمد من الطموح طاقات راغبة في الاستعلاء والتذرع بأسباب الغلبة والقهر... وإذا كان ذلك يدعو إلى المنافسات العنيفة وإهدار كثير من حقوق الضعفاء الحسية والمعنوية، فالذي يتعلق بفرضنا هو أن الإنسان في هذا الاتجاه يرى قيمته منوطة بالعلو الحسي لا بالعلو المعنوي الذي يرسم الله سبحانه ميزانه بقوله.[ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ{الحجرات:13}. والوقوف في التقدير عند هذا الحد، له دلالة على البون الشاسع الذي يبعد به الإنسان عن غاية كماله.
وفي الإنسان طبيعة التلذذ بشتى المشتهيات الحسية، على ما قرر الله سبحانه بقوله.[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ{آل عمران:14}.وإذا كان الطموح من فطرة الإنسان، لا جرم يمتد به النهم إلى الافتنان في تنويعها، ومضاعفة ما تمنحه من لذة، والاستغراق فيها، والاسترسال مع مدها إلى ما يشبه الظمأ الذي لا يرتوي... ولا نشير إلى آثار ذلك في الغرب حيث أهدرت المواريث الكريمة في قيم العرض، والعرف والدين باسم الحرية الخاصة، وحسبنا دلالته على أن الإنسانية في طورها  الحالي إنما تقوم السعادة بلذة الجوارح، وشهوات الحس، لا بما يفاض على الضمير من زاد النفس وقيم الروح، أي: دلالته على اقتراب الإنسانية من محيط بداوتها.
ولسنا بصدد تعداد علل النفس وآثارها الاجتماعية بل نذكر تلك الثلاث لما فيها من الدلالات على قصور الإنسانية إذ لم تبلغ  من الرشد الحق ما تدرك به تفاوت القيم، وتميز به الذي هو أدنى من الذي هو خير.
والإنسانية بهذا النهج أمر لا معنى له، لأنه يفقد كل ضرورة لوجوده، إن الإنسانية في الإنسان هي العنصر الزائد على طبيعة الحيوان ف

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين



التعليقات