بين عُلماء التزوير، وعلماء التنوير

 

العلم طريق معرفة الحق، وسبيل دَحضِ الباطل، ولقد رسَّخ القرآن الكريم هذا المعنى، فقال:

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9]، وقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28].

 

أجل؛ لا يستَوُون، إلّا أنّ "العَمَى" على نوعين؛ أوّلُهُما أعمى ضَلَّ عن الحقيقة بجهلِه، وتاهَ عنها بانعدام تيسير سُبُلِ المعرفة إليها، فهذا معذورٌ لجهله، وثانيهما مَن انكشف له الأمر، واستبانت له الحقيقة، ثم أصرَّ على خطئِه، فهذا هو أعمَى البصيرة، ولقد قال الله تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَ?كِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]. وقال: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) [الإسراء: 72]. وقال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه: 124-126].

 

ولا يخفى كيف عرض القرآن الكريم صورة [بَلعَم بن باعوراء]، الذي آتاه الله العلم، ولكنه اتَّبَع هواه، (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّ?لِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175 – 176].

 

لذا؛ نرى أن الإمام الغزالي حين استشعر سَرَيَان هذا المرض العُضال في بيئته، وانتشار هذا الداء الوبيل في مجتمعه، انطلق يقول في مقدمة الإحياء: (فلقد حلَّ عن لساني عقدة الصمت، وطوَّقني عهدة الكلام وقلادة النطق، ما أنتَ مُثابِرٌ عليه مِنَ العمى عن جَليَّة الحَقّ، مع اللجاج في نُصرة الباطل وتحسين الجهل، والتشغيب على من آثر النزوع قليلا عن مراسم الخلق، ومال مَيلًا يسيرًا عن ملازمة الرسم إلى العمل بمقتضى العلم، طمعًا في نيل ما تعبده الله تعالى به من تزكية النفس وإصلاح القلب)، [مقدمة كتاب إحياء علوم الدين].

 

ثم ذكر بأن سبيل الخروج من هذا المأزق إنما هم العلماء الوارثون طريق النور، (إن العلماء ورثة الأنبياء) [أخرجه بن حبّان في صحيحه]، حيث قال الإمام الغزالي في المقدمة أيضًا:

 

(فأدلة الطريق هم العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان، ولم يبق إلا المترسمون، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان، واستغواهم الطغيان، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفًا، فصار يرى المعروف مُنكرًا، والمنكر معروفًا، حتى ظل عَلَمُ الدين مُندرِسًا، ومنار الهدى في أقطار الأرض مُنطَمِسًا، ولقد خَيَّلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهارش الطغام، أو جدَلٍ يَتَدَرَّعُ به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام، أو سَجْعٍ مُزَخرَفٍ يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام، إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام، وشبكة للحطام، فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا، فقد أصبح من بين الخلق مطويا، وصار نسيًا مَنسِيًّا)، [مقدمة كتاب إحياء علوم الدين].

 

ولا عجب أن نرى في عصرنا هذا الصنف من علماء السوء، ومفتِي الطغاة، ومُرَوِّجي النفاق، وبائعي الدنيا بالآخرة، والمبادرين إلى إصدار الفتاوى المبيحة للعتاة الظالمين أن يَفتِكُوا بالمؤمنين الطاهرين، سجنًا وقتلا، وسلبًا وتدميرًا، واستباحةً وهتكًا، يُغيِّبُون أنفسَهم عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أعان على قتل أخيه بشطر كلمة، لقي الله مكتوبًا بين عينه: آيِسٌ من رحمة الله)، [رواه ابن ماجه]، قال سفيان بين عُيَينة: [هو أن يقول: أُقْ..] !

 

فما بالك وأحدهم يدعو إلى الفتك بأقصى صوره وأشنع أساليبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الإيمان قيّد الفتك، لا يفتك مؤمِن)، [رواه أحمد].

 

هؤلاء الأقزام الذين ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل من خلال عِلمٍ سَخَّروه لأهوائهم كما أبان القرآن الكريم عنهم فقال تعالى:

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ)، [الجاثية: 23]، وهكذا تتجلى حكمة الله تعالى في كشف وجه الحق، وبيان سبيل الصدق، وإظهار التمييز بين الفريقين؛ فريق الهدى وفريق الضلالة، قال سبحانه: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، [آل عمران: 179].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين