بين الشورى والاستبداد لا قداسة لرأي

 

ليس لمخلوق أن يفرض على أمَّة رأيه، وأن يصدر في أحكامه واتجاهاته عن فكرته الخاصة غير آبه لمن وراءه من أولي الفهم وذوي البصيرة والحزم. ومهما أوتي رجل من زيادة في مواهبه، وسعة في تجاربه، وسداد في نظره، فلا يجوز أن يتجهم للآراء المقابلة، ولا أن يلجأ لغير المناقشة الحرة والإقناع المجرد، في ترجيح حكم على حكم، وتغليب رأي على رأي.

 وقد ظهر في الغرب زعماء مستبدُّون، كانوا على جانب كبير من العبقرية والإقدام، وكانوا يحترقون إخلاصاً لأوطانهم، وحمية لإعلاء شأنها، ولكن هذه الميزات العظيمة ذهبت سدى، وراحت بُدداً، ضحية الاعتداد الأخرق بالرأي، وفهم الزعيم أنه هدية القدر للشعب، فيجب أن يصير كل شيء إلى تقديره، وأن تزدرى الخطط كلها إلا خطته. فكانت نتيجة هذا الاستبداد أن سقطت ألمانيا وإيطاليا، وأن فشل (هتلر) و(موسولينى) وهما من أقدر الرجال الذين ظهروا في العصر الحديث. 

والحكام الذين يستبدّون بالأمور في الشرق يعتبرون أطفالاً عابثين إذا قيسوا إلى أقدار هؤلاء الزعماء المهزومين، فإذا كان الاستبداد قد قتل الذكاء ونكب شعوباً مثقفة بارعة، فكيف الحال مع (الزعماء الصور) في أمم واهنة متهالكة؟؟. 

وما كان يجوز للأمم الإسلامية أن تضع مقاليدها في أيدي الحاكمين بأمرهم، مهما ادعوا من مقدرة وذكاء، ذلك أنهم لن يكونوا أذكى عقولاً وأنقى قلوباً من صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلم، وقد كان سيَّد الزعماء يستشير من معه، وينزل عن رأيه إذا رأى الصواب مع غيره. 

فبأي حق يجيء كائن من الإنس والجن لينفِّذ رغباته المجنونة على أمَّة يجب أن تدين له بالخضوع، وإلا حاقت بها اللعنات!! 

لما أحدق المشركون واليهود بالمدينة وحوصر المسلمون في دورها وأزقتها على النحو الذى قال الله فيه: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}. 

في هذه الأزمة العصيبة أراد النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم إغراء بعض القبائل بفك الحصار لقاء جُعل من ثمار يثرب، فبعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله.. أشيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم أمر تحبه فنصنعه؟ أم شيء تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا أني قد رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالَبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله.. قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأصنام، لا نعبد الله ولا نعرفه، ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة، فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، ووالله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: أنت وذاك، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة، ثم قال: ليجهدوا علينا. 

وفى غزوة أحد كان الرسول صلَّى الله عليه وسلم معجباً بالرأي الذي يشير على المسلمين أن يستدرجوا قريشاً إلى المدينة ليقاتلوهم فيها، وعرض على الناس أن يأخذوا به، لكن الشباب المتحمس قالوا للرسول صلَّى الله عليه وسلم: اخرج بنا إلى أعدائنا، ولم يزالوا به - من حبهم للقاء القوم - حتى دخل منزله ولبس لأمته، وخرج مستعداً للنزال. 

فلما رأوه قد لبس سلاحه وأحسوا بأنهم غيَّروا رغبته وأنزلوه على رأيهم ندموا، وقالوا: بئسما صنعنا، نشير عليه والوحي يأتيه؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: يا رسول الله، اصنع ما شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبيٍّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل)، وكان الخير لو نزل الشباب عند رأيه، ولكنه كره أن يفتأت عليهم، أو أن يتراجع عن ملاقاة الموت بعدما تهيأ له معهم. 

وفى موقعة بدر نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان ارتآه، فجاءه رجل خبير بمواقع الصحراء وأشار عليه أن يتحول إلى غيره، ففعل. 

وفى اختياره العفو عن أسرى بدر ـ مع أنهم مجرمو حرب ـ نزل تصويب الوحي له:{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم}.

وفى سماحه لبعض المترددين أن يتخلفوا عن القتال نزل عِتاب لطيف على هذا الإذن السريع: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}. 

ولما كانت هذه التصرفات تتعلق بالناحية البشرية المحضة في حياة الرسول صلَّى الله عليه وسلم، وهي ناحية تتعرض بطبيعتها للنسيان والتفاوت في تقدير الأمور والعواقب، فقد نبَّه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم المسلمين إلى ذلك حتى يتعاونوا معه على تعرف الحق وعلى التزامه أيَّاً كان المهتدى إليه.

 ومن ثَمَّ جاء حديثه المشهور في القضاء: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع.. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار).

 هذا هو مسلك أعظم رجل مشت قدمه على ظهر الأرض. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر كتاب: الإسلام والاستبداد السياسي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين